الفضائيات الصفراء: “هجمة تفوت ولا حد يموت”
ظننا أن تراجع الإقبال على الصحف الورقية قد أدى إلى أفول نجم الجرائد الصفراء بما تمثله من وجه قبيح للإعلام القائم على الفضائح والأخبار المبهرة مع كذبة هنا وأخرى هناك لغايات “أكل العيش”.
هذا الظن سرعان ما تبدد حينما ظهرت فضائيات صفراء تقتات على التشهير والتنكيل بكل من ينادي بالديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، هذا المسلك الشائن من تلك الفضائيات ليس مردّه قناعة يمكن مناقشتها حتى لو اختلفت معها، فهم لا يقولون لك مثلاً أن الاستبداد أفضل من الديمقراطية وامتهان الكرامة المتأصلة للإنسان أولى من احترامها، إذ تبني هذه الفضائيات منظومتها الربحية على أساس ذيوع السمعة والصيت بغض النظر عمّا إذا كانتا محمودتين أو سيئتين، فترى مالكي هذه الأوكار الإعلامية يجنّدون بعض المصابين بالانفصام الأخلاقي والقيمي ومن حطموا أرقاماً قياسيةً في الابتذال والانحدار المهني، ويتيحون لهم مساحات من الهواء ليبثوا هوس التوق إلى أن تصبح “سيرتهم على كل لسان” الممزوج بحنق وغيرة صفراء باهتة اللون، فيقدّمون وصلات من “الردح” المبتذل ضد الشرفاء من الناس ليردوا عليهم فيذيع صيتهم ولو كان صيتاً غير مشرف، المهم أن اسمهم يتردد في كل مكان.
اليوم، وبعد أن كان لي شرف المشاركة بجهد جد متواضع مع التحرك الذي قادته الحركة النسائية والحقوقية في بلدي لإلغاء المادة (308) وانتابني الإحساس بالفخار والاعتزاز بما حقَّقته هذه الحركة التي كان وما يزال أجمل ما فيها عملها الجماعي، بدا لافتاً للنظر النغمة النشاز التي انطلقت من حناجر مسكونة بهوس الشهرة حتى لو كانت خامة صوتها لا تؤهلها لتكون بائع خضار في الحسبة المركزية.
لن أتحدث هنا عمّن كان يتبنى موقفاً وانقلب على نفسه قبل أن ينقلب على غيره، فمثل هؤلاء لا يستحقون عناء الأمساك بالقلم والكتابة عنهم، لكن ما يستحق الرصد والمتابعة هو بداية تبلور “إعلام خالف تشتهر”، إذ أن البعض في ما يبدو توصل إلى حقيقة مرة مؤداها: أنك إذا كنت فارغ المحتوى خاوي الوفاض وهوس الشهرة لا يبرح يفارق تفكيرك؛ فما عليك إلا أن تراقب أين يتجه التيار الذي يستند إلى العدالة وحقوق الإنسان ويطالب بالتغيير، حيث أن هذا التيار يتمتع بتواجد ملحوظ على وسائل التواصل الاجتماعي ويمثل قوة يُحسَب حسابها بشكل أو بآخر، ثم ابدأ القتال والسباب والصراخ ضد هذا التيار وبأعلى صوتك ليرد عليك بثقله الإعلامي فيغدو اسمك على تريندات تويتر وبوستات افيسبوك وقد يرضى عنك من تتطلع إلى رضاهم فتكون يا “فهلوي عصرك وزمانك” اصطدت عصفورين بحماقة واحدة، إذ أنت من جهة أفرغت شحنة الحقد على كل من يمثل نجاحاً في مجاله، ومن جهة أخرى اتسع أمامك الأفق ليغدو اسمك “سيرةً على كل لسان وعِلكَةً في كل فم”.
على كل حال، أكتفي هنا بالحديث عن الموتورين المنفصمين أخلاقياً ومهنياً من شلة “خالف الحق تشتهر بالباطل” فهم لا يستأهلون أكثر من ذلك، فالأهم هو التيار الحقوقي الذي يراد جرّه إلى ساحة الجدال السفصطائي الفارغ ليركب على ظهره المجادلون السفصطائيون لينالوا الشهرة، فلهذا التيار أقول، ليس من شيء تكافئ به عدوك بأفضل من ردك عليه وجعله يحتل مساحةً في حواراتك البناءة العلمية المتحضرة، وعلينا أن نتعلم من أجدادنا أن النباح لم يحل دون سير قافلة قط وأننا نحن أهل الخلاف والاختلاف والتنوع طالما كان مبنياً على الاحترام وعدم التخوين، نهايك عن عدم استخدامه أداةً لظهور من كان طوال حياته مغمور.
أما من لم تسعفه الحيلة ممن يشغلون مراكز سياسية حساسة يرقبها الجميع وبادر إلى نعت من شاركوا في حراك إلغاء (308) بأنهم ممولون وأصحاب أجندات، فأقول: ما هكذا تورد الإبل وليس هذا ديدن من يُنَصِّبون أنفسهم بأنهم حكماء القوم، ومع ذلك فإنني أدعو كلّ من تبنى مثل هذا الهراء أن يتفحص جيداً المكان أو القاعة التي يجلس فيها ويراجع ذهابه وإيابه لينظر إلى حجم التمويل الأجنبي في ذلك كله، وبالرغم من ذلك فهذه ليست نقيصةً في حقهم حملناها عليهم، بال هم يرمون بيوت الناس بحجارتهم وبيوتهم أوهن من بيت العنكبوت، وعموماً وعلى رأي المثل المصري القديم المتجدد: “هجمة تفوت ولا حد يموت".
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.