الضياع وسط جمهور متحمس

الضياع وسط جمهور متحمس
الرابط المختصر

وجدت نفسي منذ البداية وسط جمهور متحمس، متدافع، صاخب، ويتزاحم بفظاظة من دون أن يخطو خطوة واحدة أماماً أو وراءً أو يميناً أو شمالاً. كأنما التزاحم هو أسلوب الوقوف الوحيد الذي يعرفه.

أو لربما هو الدور الوحيد المتاح له!

 

2

لا أعرف أين كنت قبل ذلك. ووجودي وسط الجمهور المتحمس أغراني بغض الطرف عن محاولة تذكر أين كنت، ومن أين جئت. إذ خطر بالي أن كل هذا الحماس لا يمكن أن يكون وليد الصدفة، أو مستثاراً بقضية تافهة، وأن المتحمسين بالضرورة هم أشخاص واعون ومحترمون بأشخاصهم وبوعيهم، فلم أجد غضاضة في أن أنسى محاولة تذكر من كنت لأحاول أن أكون منهم.

ولشدما أردت أن أكون منهم.

 

3

وجدت نفسي منذ البداية وسط جمهور متحمس، صاخب، لكن هذا لم يعفني من الشعور بالوحدة. ولم ينقذني من الإحساس بالضياع. بقيت أشعر بنفسي ضائعاً، وتائهاً، لا أخص أحداً، ولا يحتاج أسئلة حيرتي أحد.

لم أشك بأنني في مكاني. لكن رغبت في أن أتيقن، وأن أشاهد، وأسمع، فزاحمتُ، وحاولت التقدم بالاتجاه الذي يفترض أن تكون فيه المنصة، وبعد أمتار قليلة قطعتها بجهد جهيد بين الجمهور المتحمس المتراص، رأيت ما أثار ريبتي.

كانت ثمة نقطة ما أن يبلغها المرء حتى ينحني!

سألت عن ذلك، فقيل لي:

  • هناك نقبّل اليد، لنمر إلى المنصة لنرى ونسمع، وربما يسمحون لنا بالمشاركة.

فكرت بأنني ربما لم أكن منذ البداية هناك، وسط هذا الجمهور المتحمس. لكن الأمر في أنني لا أعرف أين كنت قبل ذلك. ورحت أقول لنفسي: من المؤكد أنني كنت في مكان ما، مختلف، محاه من الذاكرة كل ذلك الصخب، وطول البقاء بين الجمهور، وشدة تدافع الجموع المتحمسة. بل المتعطشة لفكرة تناسبها ويمكن تنصيبها على عرش الحقيقة المطلقة!

 

4

عدت أدراجي مزاحماً الجموع، راضياً ومطمئناً. ولدهشتي كان الرجوع أشد تطلباً للجهد من التقدم أماماً. ولسبب ما واتتني القوة على التراجع، بأكثر مما وجدت في نفسي من عزم على التقدم أماماً.

سبب جعلني أتساءل عن السحر في تلك اليد التي تجعلنا قادرين على ما نكره.

عدت، وأنا الآن خارج كل الأشياء، لكني داخل نفسي. ما زلت أفتش عني، ولا أجدني. بالمقابل، لست مضطراً للتظاهر بأنني وجدتني، وأنني أجد نفسي مع وفي جموع لا أعرفها ولا تعرف هي إلى أين تسير.

لكن يذهلني ما كان حدث لي!

 

5

حدث لي أنني وجدت نفسي وسط جمهور متحمس، متدافع، صاخب، ويتزاحم بفظاظة من دون أن يخطو خطوة واحدة أماماً أو وراءً، أو يميناً أو شمالاً. لم أشك أنني في مكاني. لكن رغبت في أن أتيقن، وأن أشاهد، وأسمع، فزاحمتُ، وحاولت التقدم بالاتجاه الذي يفترض أن تكون فيه المنصة، وبعد أمتار قليلة قطعتها بجهد جهيد بين الجمهور المتحمس المتراص، رأيت ما أثار ريبتي.

كانت ثمة نقطة ما أن يبلغها المرء حتى ينحني.

سألت عن ذلك، فقيل لي:

  • هناك نقبل اليد، لنمر إلى المنصة لنرى ونسمع، وربما يسمحون لنا بالمشاركة.

وأنا لليوم لست متأكداً أنني تزاحمت مع المتزاحمين من أجل ما كنت أعتقد أنه يستحق التزاحم، إذ لا أعرف للساعة إن كان على المنصة مطرب ما، أو راقصة شرقية، أو خطيب سياسي (الأصوات والموسيقى تتشابه).

بل لست متأكداً إن كانت هناك منصة من حيث الأساس!

ويقول لي عقلي إن ما كان أمام الجمهور هو مجرد مباراة كرة قدم، بين منتخبنا القومي ومنتخب الأعداء الوطني. وهذا ما يدعوني للتساؤل: لِمَ يفوز منتخب الأعداء دائماً بالضربة القاضية، ويفترض أنها مباراة كرة قدم، لا جولة ملاكمة.

بلى، لا زلت على الأغلب تائهاً بين ذلك الجمهور المتحمس، ذاته!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.
أضف تعليقك