الصعود من حُفَر الخنادق

الصعود من حُفَر الخنادق
الرابط المختصر

في نهاية كلّ الحروب، وعند إعلان رؤساء الدول المتحاربة الاتفاق على وقف إطلاق النار في جميع الجبهات، يمرُّ على الجنود وقتٌ مشحونٌ بالتوتر. توترٌ تمتزج فيه مشاعر شتّى: عدم التصديق، الفرح الغامر، المبالغة في الحَذَر، القلق من أن يكون الاتفاق ليس سارياً بمجرد إعلانه، إلخ. حدث هذا، أو مثله، في نهايات الحروب الطويلة ذات الاشتباكات الدولية القارّية، كالحربين العالميتين، وفيتنام، وكوريا. رأينا تلك المشاعر في مشاهد درامية عرضتها السينما، وقرأنا عنها في روايات وقصص قصيرة.

هذا مجرد تمهيد بدأت به مقالتي لأنتقلَ (ولتنتقلوا معي) للخطوة التي تتبع الوثوق في أنّ الحرب قد انتهت.

ماذا يكون من الجنود، على طرفي المواجهة؟

يخرج عدد من خنادقهم بِحَذَر وبطء أوّلاً، ثم سرعان ما يتدفقون في حالة صعود إلى سطح الأرض. إذَن: كانوا جميعاً تحت الأرض، في حُفَرٍ شقوا لها مسارب وتعرجات تحوّلَت، مع الوقت وتتابع الفصول، إلى ما يقارب المستنقعات أو القبور الأفقية الجماعية الموحلة العفنة. في هذه الحُفَر/ القبور كانوا يعيشون حياتهم ما دامت الحرب قائمة، ولا بُدّ أنهم ما كانوا "يستسيغون" هكذا حياة.. وإلّا فإنهم مَرْضَى وبأكثر من معنى. لذلك؛ فإنّ هتافاتهم الفَرِحَة ما إنْ يصعدوا إلى سطح الأرض إنما تشير إلى أنّ كابوساً قد انزاح عنهم، وها هم (في غير قليل مما صورته لنا السينما) يقتربون، آتون من طَرَفي المواجهة، وينظرون في عيون بعضهم بعضاً على نحوٍ يمكن للرائي أن يقرأ فيه عالماً من الأفكار والمشاعر.

يمكن للرائي أن يقرأ الندم، أو التساؤل الأبله، أو التشكك وعدم الثقة، أو الحقد، أو الإفصاح عن أنّ كلّ ما كان لا يعدو حماقة كبرى رسمها "كِبارٌ" لصالح مصالحهم، ودفع ثمنها "صِغارٌ" من أرواحهم، ليعود دولاب اللعبة لدورته الأبدية، وأنْ ليس ثمة ما يتغيّر في مصائر مَن حاربوا في الحُفَر ومساربها الموحلة العفنة تحت الأرض في ما تبقّى من أيامهم!

يا لهذه المهزلة القاتلة! يا لهذه الحماقة الجَماعية التي بلغت درجة الولوغ في دماء بَشَرٍ لا يعرفون عن بعضهم شيئاً: القَتَلَة، والقَتْلى! يجهلون بعضهم بعضاً، ويسافر القاتل بصحبة القتيل في رحلة نسيان لا عودة منها. أما ذاك البناء الغرانيتي المنحوت أو الفولاذي المصبوب، التعويضي المُسمّى "نُصْب الجندي المجهول"؛ وفي عاصمة كلا طرفي المواجهة، فليس سوى الإشارة الدامغة على ديمومة الكذبة/ المهزلة/ الحماقة! إذ كيف يعقل أن تكون العدالة، أو الحق، أو المشروعية في الجانبين معاً! فإنْ أردنا الانصياع لهذا اللامنطق التاريخي؛ فلسنا سوى الطرف المتواطئ على جريمة شَرَف كبرى: جريمة شَرَف بحق الضمير، جريمة شَرَف بحق العقل الراشد، جريمة شَرَف بحق الإنسانية السوية، وباسم الوطن في جميع هذه المرّات.

*  * *

لماذا هذه المقالة؟

ماذا أردتُ أن أقول من خلالها؟

كيف ستقرأونها، وبأيّ تأويلات سوف تخرجون؟

أسئلة برسمنا جميعاً، وها واقعنا الاجتماعي (قبل السياسي اللاسياسي، أو السياسي المسخ) يبدو أمامنا واضحاً.

ربما يسعفنا بحزمة إجابات.

إجابات تأتينا من حرب شوارع صامتة في مدننا، وأخرى على مواقع تواصلنا/ لاتواصلنا الاجتماعي، وثالثة عبر اشتباكات لا حاجة لأسلحة نارية لنفي بمهمة أن نقتل بعضنا بعضاً!

إجابات قد تتناسل من هذا السؤال: هل نريد أن نفهم بعضنا، ولا نغالط أو نكابر؟

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

أضف تعليقك