الشهرة والفضيحة
جيل الأردنيين، الذي نشأ في الأرياف، قبل منتصف القرن الماضي، لم يتعامل أبداً مع مفهوم «الشهرة» بمعناه المعاصر. كان يقدر شيئاً آخر شبيه هو «الصيت». الذي هو مفردة ذائعة «الصيت» ومرموقة الاستخدام في الثقافة البدوية.
الفارق بين «الشهرة» و«الصيت» يكمن في أن الأولى متحررة من الأخلاقيات الاجتماعية، بينما الثانية دليل على توافرها في شخص، فـ«الشهرة» المعاصرة التي قد تحظى بها راقصة في ناد ليلي، أو مسؤول فاسد، أو إرهابي طليق، تضمن أن صاحبها «علامة تجارية» رائجة. ولا علاقة لذلك بالصيت الذي لفلان الـ«كريم» و«راعي الأولة»، الذي فضلة «ما ينلحق»، أو علان الـ«حكيم» والـ«شجاع» و«حمّايهن لَنْ طب بيهن جفالِ».
وعلى سبيل المثال، أتذكر أن أمي التي تنتمي إلى هذا الجيل، لم تكن كثيرة الارتياح لمفهوم «الشهرة»، ولا تلتفت إلى «الصيت». كانت «الشهرة» على قدر ما فَهِمَتها نوعاً من فضيحة طوعية. أي، فضيحة مقرونة بالوقاحة. أما «الصيت» فتعيبه تراتبية اجتماعية معينة يختص بها المجتمع الذي تنتمي إليه. وكانت تولي اهتمامها الخاص إلى شيء آخر رديف، بدرجة ما، لـ«الشهرة» و«الصيت»، لكنه يمس الإنسان بعيداً عن مرتبته الاجتماعية، ولا يعمي عيون الناس فيريدونه بـ«أي ثمن»، ويأتي تلقائياً لمن يستحق..
كانت تهتم على وجه الحصر بـ«السمعة»!
الصورة التي تتشكل في عيون الآخرين حول إنسان من خلال مسلكيات وقناعات ثابتة لديه، يعيش بها يومه، في كل أحواله، لا يعيها تماماً، ولا يستعرضها، ويخسر لأنه لا يحيد عنها، ولا يفعل شيئاً إلا وكانت حاضرة معه، في فعله، وفي سلوكه. لا يسلك سلوكاً لأجل أن يتصف بها، ولا يسعى أن يكونها. لكنها تنظم حياته، كلياً.
ويصدف أن هذه الثقافة المعتقة والمهملة في آن، بفعل التنظيرات الميكانيكية المتعسفة لغايات إثبات هوية وطنية اعتباطية حول «البداوة المتخلفة»، و«الفلاحة المنتمية لعصر الدولة والإنتاج الاجتماعي المنظم»، هي بالذات ما يصلنا ويربطنا بجذورنا ومصادرنا الثقافية. وهي ما يجعلنا وما يمكننا من أن نعيش ونتفاعل مع ثقافة معاصرة سائدة ومهيمنة من دون الوقوع في استلاب ما، ومن دون أن نغترب في عقولنا ووجداننا.
إذن، «الشهرة». «الصيت». «السمعة». ثلاثة مفردات لها قوة المفاهيم، تؤدي الغرض نفسه في ثقافات مختلفة. ويمكن للمرء أن يكتشف أن «قائمة الطعام اللغوية» في هذا المجال لا تنتهي عند رقم معين، في كل اللغات البشرية، ومنها البدائية. وأن في هذه القائمة ما يغوي ويرشي ويداعب خيلاء وطموحات البرجوازية الصغيرة. كما علينا أن نلاحظ أن عدد المرادفات ذات العلاقة، التي شاعت في القرن العشرين، كثيرة على نحو غير مسبوق، ولا تقبل الحصر..
واللافت على وجه الخصوص تلك المفردات منها، المختصة بالعقل، مثل: «عبقري» و«ذكي» و«ملهم». وأن هذه المفردات وغيرها التي ازدهر استخدامها في القرن العشرين وتوسع على نطاق واسع، هي مستدعاة من خزائن اللغة، وتم إحياؤها لتكون أداة توصيف تخدم واقعاً ثقافياً جديداً؛ ففي وقت عربي ما، كان الـ«ذكي» «فهيم»، و«الملهم» «يوحى إليه»، والـ«عبقري» بالتوصيف اللغوي، «علّامة». ومن يربط بين مفردة «عبقري» والملفوظ القرآني «عبقري حسان» عليه أن يراجع فهمه لإيمانه.
لم يكن نيكولو باغانيني موسيقياً ملهماً، بل كان في عرْف الكنيسة القروسطوية شريراً يوحي إليه الشيطان. وآمنت البشرية أن الأنبياء ليسوا ملهمين بل يوحى إليهم. بينما الفهيمون اليوم هم من يجدون لأنفسهم دوراً في خدمة النظام الاجتماعي السائد والاستفادة الشخصية منه إلى أقصى حد.
كل هذا الكلام لأنني أريد أن ألفت الانتباه إلى أن من أفضل المفردات في هذا المجال هي الـ«مجد». لاحظوا أن هذه المفردة يمكنها أن تتسق في صياغات محددة، مثل: الـ«مجد» العسكري، كما أنها تقبل التوظيف في المجالات الإبداعية، مثل: الـ«مجد» الفني، الـ«مجد» الأدبي. لكنها لا تقبل التوظيف مثلاً مع السياسة، ولا مجالات العمل الوضيعة، ولا تقبل مجالات العمل الإدارية، كما لا يمكننا بحال من الأحوال الحديث عن الـ«مجد» المصرفي!
كيف حدث أن تم تطويع هذه المفردة للاستخدام في مجالين متباعدين: العسكرية والإبداع!؟
هذا شيء أنطلق منه في العادة، خلال التفكير الذي يرافقني منذ سنوات طويلة حول ب. ترافن، الذي مات زاهداً بالمجد الأدبي، الذي ينفق أدعياء الأدب اليوم مما يملكون ليحظوا بأعرضه من شهرة ومديح وخيلاء. واكتفى أن يبقى مجهولاً تماماً لا يتمتع بأي خير، مادي أو معنوي، يمكن أن تعود به مؤلفاته عليه. ما جعل شخصه يبقى إلى اليوم لغزاً محيراً، والمثال الأكثر معقولية بين يدي أنصار فكرة تحرر النص من سيرة كاتبه.
بغض النظر عمن يكون ب. ترافن، الذي تحاشى بكل تأكيد أعراض «الشهرة» ومشتقاتها ومرادفاتها، بإصراره على الاحتجاب عن الحياة العامة وحرصه على أن يكون شخصه مجهولاً ومغموراً، فإن السؤال المثير فعلاً هو: هل نجا فعلاً من «الشهرة» نفسها..؟
أظنه نجح في تجنب الفضيحة، التي تأتي بها «الشهرة»!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.