الشباب العربي: اللامبالاة والإحباط والتغيير

الرابط المختصر

تصدّر موضوع الشباب، خلال الأعوام القليلة الماضية، اهتمام حكومات عربية عديدة، وأصبح – بوضوح – ملفاً ساخناً على طاولة المسؤولين، وحتى المؤسسات الغربية، بعد أن تحوّل المنظور العام للشباب من سياق اللامبالاة وعدم الاكتراث بالشؤون العامة، إلى وصفهم بقوى التغيير والتحريك الفاعلة في الشارع اليوم.

بموازاة هذا الاهتمام الرسمي العربي الذي أخذ صوراً متباينة ومتنوعة، عُقدَت دراسات وأبحاث وندوات عديدة عن الشباب، بوصفهم شريحة اجتماعية ذات خصائص معينة، ولديهم هوية جيلية معينة، وأخذ موضوع الشباب استقلالية على صعيد الاهتمام الأكاديمي والبحثي والسياسي بصورة عامة.

من ضمن الكتب المهمة التي تناولت موضوع الشباب العربي، خلال الفترة الماضية، وصدر بالإنكليزية وتُرجم إلى العربية، كتاب “مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، من تحرير يورغ غرتل ورالف هكسل، ويضم مجموعة مهمة من الدراسات المسحية والتحليلية. وكذلك الكتاب المهم الآخر، الذي تتناوله هذه المقالة، صدر حديثاً (نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) بعنوان “سياسات الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، وهو أوراق عمل مهمة (قدمت خلال ورشة عمل أقامها مشروع الشرق الأوسط والعلوم السياسية التابع لمعهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن مع مركز الفينيق في عمّان). وتتناول الأوراق حالات متعددة، مثل الحركات الشبابية في تركيا وتونس والمغرب والجزائر ومصر والأردن وفلسطين والسودان، إذ يسلط الباحثون الضوء بصورة معمّقة في كل حالة من الحالات السابقة على كيفية تشكل الحراكات الشبابية الجديدة، وتأثيرها بصورة عامة، والتغير الواضح في الاستراتيجيات والأدوات عن العقود السابقة، وما شكلته هذه الحركات من قوةٍ وقدراتٍ غير مسبوقة في تحريك الشارع، والوصول إلى أكبر عدد ممكن من المتأثرين.

يمكن بسهولة ملاحظة كثير من الفروق والاختلافات والتنوع بين الحركات الشبابية في هذه الدول، على صعيد المطالب والظروف والأولويات، إلّا أنّ جميع الدراسات تؤكّد أنّنا أمام فاعل قوي ومؤثر جديد في المشهد السياسي في المنطقة، وهو الحركات الشبابية التي أصبحت تستخدم استراتيجيات وتكتيكات جديدة متشابهة، تتجاوز الوسائل والأطر التقليدية التي يتعامل من خلالها كلّ من الحكومات والمعارضات الحزبية العربية.

إذا تجاوزنا التفصيلات الخاصة بكل حالة في الكتاب، وفيها اقترابٌ مهم من معلومات وتحليلات قيّمة، وانتقلنا إلى النتائج العامة المشتركة التي تصلح لأن تشكّل مدخلاً أساسياً لدراسة وتحليل التحولات البنيوية والرئيسة التي حدثت في علاقة الدولة بالمجتمع في العالم العربي (بصورة محددة)، وفي عجز الآليات والاستراتيجيات والأدوات التقليدية التي كانت تستخدمها النظم العربية خلال العقود السابقة عن التكيّف الفاعل مع التطوّر الذي حدث لدى الأجيال الشبابية الجديدة في استخدام التكنولوجيا وتوظيفها بصورة قوية في التغيير والتعبير عن مطالبهم.

دعونا نبدأ بملاحظة أنّ ما يحدث حالياً من احتجاجات عديدة في العالم العربي حالياً، العراق ولبنان، وقبلهما الجزائر والسودان، وحالة عدم الاستقرار في دول أخرى، يؤكّد أنّ العوامل والشروط والأسباب التي ولّدت لحظة الربيع العربي، وقادت الشعوب نحو المطالبة بالتغيير الداخلي، بعد عقود من الصمت والسكوت، وبعدما كانت القناعات الشعبية بعدم جدوى الاحتجاجات هي السائدة، لا تزال (هذه الأسباب) قائمة وفاعلة، على الرغم من الانتكاسات التي حدثت لاحقاً في أغلب التجارب.

العنصر الفاعل في هذه الاحتجاجات هو جيل الشباب الذي أحرق الصورة النمطية عنه، أنّه جيل محبط، لا مبالٍ، غير مسيّس، معنيٌّ بأحلام الخلاص الفردي والهجرة، ليست لديه أهداف سياسية واضحة، فانقلبت هذه الصورة رأساً على عقب، مع الاحتجاجات في مصر وتونس ودول عربية عديدة، وكان “عمودها الفقري” من الشباب، فأحدثت تحولاً كبيراً في موقف جيل الشباب تجاه نفسه وموقف الحكومات العربية تجاهه!

ضمن المعطيات الجديدة يقترح أحد الباحثين (في الكتاب) قراءة المنطقة سياسياً من خلال “المقاربة الجيلية” في العالم العربي، بمعنى: أنّ جيل الشباب اليوم بدأ “يتحرّك” بوصفه جيلاً له خصائص سيكولوجية وسوسيولوجية وسياسية معينة، يواجه تحدياتٍ مشتركةٍ عامة، ولديه أهداف وأحلام معينة، يواجه، في أغلب الدول، تهميشاً سياسياً ومآلات الفشل التنموي، والمشكلات الاجتماعية والأمنية العديدة، فأصبح هنالك ما يجمع جيل الشباب، في المنطقة، ويسهّل عملية تبادل الخبرات والأفكار في الحركات الجديدة.

الملاحظة المهمة التي نقرأها في الحالات جميعاً أنّ الجيل الجديد يتجاوز الاستراتيجيات والأشكال والأدوات التقليدية، يعمل من خارج العمل الحزبي والسياسي التقليدي، ويفضّل العمل الشبكي – الأفقي، على الهيراركي العمودي، وأهدافه مختلفة بصورةٍ كبيرةٍ عن الأجيال السابقة. وتعتمد طريقة عمله بدرجة كبيرة على التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، فلديه قدرة أكبر وأسرع على الحشد والتعبئة وحملات كسب التأييد، فالطريق أمامه أسهل بكثير إلى تجاوز الحدود التقليدية الأمنية والسياسية وابتكار شعارات وترويج أفكار بصورة لافتة.

هذا التحول العميق في مفهوم العمل السياسي بين جيل الشباب اليوم والأجيال السابقة أدّى إلى انتقال الفعل السياسي والتأثير من الأحزاب الكلاسيكية إلى الحركات الاجتماعية، وبروز مصطلحات مثل “سياسات الشارع” و”الحركات الإلكترونية”، و”سياسات السوشال ميديا” التي أصبح لديها القدرة الفاعلة والمؤثرة في إعادة صوغ وتشكيل المناظرات الوطنية والإعلامية داخل كل دولة، ما أثّر، بدوره، بدرجة كبيرة في نظريات الاتصال السياسي والجماهيري التقليدية التي لا تزال تدرّس في الجامعات، وإيجاد فجوة كبيرة بين وسائل الإعلام التقليدية التي تعتمد عليها الحكومات والثقافة واللغة الجديدة التي يتداولها الجيل الجديد على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تويتر والهاشتاغ ويوتيوب وغيرها.

الخلاصة أنّنا أمام جيل جديد من الشباب، “وعيه الجيلي” آخذ في التنامي والتطوّر، يشعر بالقلق الشديد وحالة “اللايقين” تجاه مستقبله، تجاوز الثقافة النفسية والسياسية التي انبثقت من طبيعة العمل السياسي في العقود الماضية، ولديه اليوم استراتيجيات وتكتيكات وخطاب ولغة مختلفة تنزع نحو التغيير والخروج من قفص الخوف والرعب من الاشتباك مع الواقع السياسي.

(العربي الجديد)