السلطة تعرف
يبدو أنّ مسألة التربية ومنظومة التعليم في الأردن باتت الآن، وأخيراً، محطّ اهتمامٍ طفق يتزايد وتطفو التفكرات به على السطح. وهذا أمرٌ مطلوب ومُلِحّ، وضرورته واجبة إذا أخذنا بالاعتبار أننا تأخرنا في طرحه للنقاش على الملأ. ولكن، وكما يُقال، أن نتأخر في المساءلة خيرٌ من أن لا نتساءل أبداً.
عطفاً على مجمل الطروحات المتداولة بين المهتمين بشأن المناهج التعليمية، واستكمالاً لما أورده الصديق محمود منير في مقالة له سابقة ضمن هذا الباب ("تكوين")؛ فإني أطرح بدوري الأسئلة التالية:
* هل وصلت السلطة، فعلاً، إلى اكتشاف حقيقة أنّ كثيراً من الكتب المنهجية بحاجة إلى إعادة نظر، وبالتالي إلى مراجعة جذرية للطروحات الواردة فيها والمسببة للرؤية الأحادية لدى الأجيال الجديدة؟ تلك الرؤية الحاجبة لطبيعة التعدد والتنوع في الحياة المعاصرة، وفي كافة المناحي: ثقافات، وأديان، ومعتقدات، وكتابة للتاريخ، وتحديث للعلوم، ومتابعة للتحولات الاجتماعية، إلخ؛ ما يؤدي في النتيجة إلى التعصُّب وإنكار كل اختلاف، وعداء لكل مختلف، ووهم الاعتقاد بصحة ما نملك وفساد ما يملكه الآخر؟
* هل بلغ الأمر بالسلطة، فعلاً، إلى اتخاذ قرار بتفعيل عمليات إعادة النظر وإجراء المراجعات لجميع الكتب، ابتغاء "تنظيفها" من كل العَوار الذي تتضمنه والذي يقود، حتماً، إلى إعادة النظر بمن "وضعوا/ كتبوا" تلك الكتب وفرضوها على أبنائنا بوصفها "حقائق" ليست محل مساءلة ونقاش وحوار؟ وهل اطلعوا، فعلاً، على التقارير الواردة من أساتذة أصحاب اختصاص أظهروا "الأخطاء" التي سجّلوها على تلك الكتب، وهل سيأخذون بها، أم سيهملونها ويلقون بها لإبقاء الوضع على وضعه؟
* هل تمتلك السلطة، فعلاً، القدرة وحرية اصطفاء المؤهلين الحقيقيين ليكونوا البدلاء في إعادة كتابة تلك الكتب "المقررة"، ابتغاء تصويبها وتصويب، بالتالي، الرؤية الأحادية التي كُرِّسَت عبر ما يقارب من أربعين سنة، ومن خلال "طواقم" تربوية ذات اتجاه أيديولوجي محدد ومعروف كان (وما يزال؟) المسؤول الأساسي على تشكيل ذهنية لا تحتمل الاختلاف، ولا تطيق التفكير "خارج الصندوق" – صندوق مفاهيمها هي، المغلق؟
* هل تتوفر السلطة، فعلاً، على جيش من المعلّمين المؤهلين لتدريس تلك المناهج/ الكتب الجديدة، المستدعية لطبيعة تدريس مختلفة بطبيعة الحال عمّا سبقها، وعلى مشرفين تربويين أصحاب رؤى مغايرة في التقييم والتقويم، بحيث لا تُخْلَق "فجوة كبيرة" بين الكتاب الجديد والمعلّم القديم؟
* إذا افترضنا توفر كل ما سبق؛ هل ستتخذ السلطة، فعلاً، الخطوة الأولى بتنحية "الكتاب المقرر الحالي" وإحلال "الكتاب المقرر الجديد"، وقد اخذت بالاعتبار أنّ إرثاً من المفاهيم المرتكزة على تلك الرؤية الأحادية هي نفسها مفاهيم الكثرة الكاثرة من المعلّمين (الذين هم النتاج لأربعين سنة من التعليم السابق)؟ وكيف ستتدبر أمر هؤلاء حين يخرجون على مضمون الكتاب عند تدريسه للطلبة، بحكم استنادهم لمألوف مفاهيمهم غير المعرضة للخطأ، فيضطرون لتحريفها وإبطال المرجو منها؟
أدركُ أنّ أسئلة كهذه ليست مجالاً سهلاً لإجابات تطبيقية ناجحة بالضرورة. غير أنّ التعرض لها بـ"محاولات" إيجاد الطرق الكفيلة بتصويب أخطاء أربعين سنة (بل خطاياها القاتلة)، التي حُقِنت بها ثلاثة أجيال على التوالي، تستحق بذل الجهد الصادق فعلاً وإلّا؛
* * *
عفواً: لم أنتبه إلى أنّ السلطة نفسها هي السلطة، وأنها كانت بكامل وعيها على كيف تم إنتاج المناهج/ الكتب، وأنها ليست كياناً افتراضياً أثيرياً يسبح في الفضاء. إنها، أيضاً وأيضاً، النتاج الحتمي لتراكم تلك الأربعين سنة.
من أقوالنا الشعبية: الجاهل عدو نفسه!
وأسمح لنفسي بأن أقول: العارف يكون عدواً لنفسه، كذلك، في كثير من الأحيان.
والسلطة تعرف.
أليس كذلك؟
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.