السطو على بيت غوركي

السطو على بيت غوركي
الرابط المختصر

 

 

(إن جاز إهداء المقالات، فمقالي هذا مهدى إلى سعود قبيلات ود. هشام غصيب، وأحمد جرادات، وإلى الراحل العزيز رفيقي القديم زكي الطوال وكتابه الأثير)

 

من المعروف أن اليسار الأوروبي حين أراد أن يتخفف من ماركس، وأن يتنصل من تأكيدات إنجلز على الماركسية بصيغتها، التي وردت في المؤلفات ما بعد الهيغلية لناسك الفكر العالمي، لجأ إلى السطو على بيت غوركي.

 

وعملية السطو هذه واحدة من »أعظم« عمليات السطو في التاريخ، وتستحق حلقة طويلة من برنامج يحمل الاسم ذاته، تبثه محطة ناشيونال جيوغرافيك؛ وربما تكشف مثل هذه الحلقة عن العلاقات المتبادلة التي ربطت الكاتب الروسي الشهير مع بعض أصدقائه من أركان الثقافة في أوروبا وأميركا، خصوصاً جورج برنارد شو، ومارك توين، وأندريه مالرو، وأندريه جيد، ولويس أراغون، وغيرهم ممن كانوا الشرفة التي قفز منها اللصوص إلى بيت ألكسي مكسيموفيتش.

 

ومن المؤكد أنه سيلفت المحققين في »الجريمة« أن مرتكبيها ابتدؤوا بالتقاط الاهتمامات والتقنيات الإبداعية، قبل أن تقع أيديهم على قيم الحريات والحقوق المدنية وحرمة الثقافة وأولويتها على السياسة وحصانة المبدعين وتمكين الإنسان بمواجهة الحكومة وتعزيز دور المجتمع مقابل الدولة، إلى جانب كل تلك الأشياء الثمينة التي انتشلها اللصوص الغربيون من الدرج الذي يضم ملابس غوركي الداخلية.

 

وهذا كله يعيدنا إلى المستقبليين الروس، الذين كانوا وقوداً لفكر أوروبي «رأسمالي» جديد في الثقافة والفن، تعمّق حتى وصل إلى اللغة وعلومها الرياضية؛ فنتذكر أن هؤلاء كلهم كانوا حلقة »السُكْر« اليومية، التي كانت تلتقي في بيت شاعر روسيا، السوفيتي العظيم، الشيوعي فلاديمير فلاديميروفيتش مايكوفسكي، ووازاهم في الفن التشكيلي كازيمير ماليفيتش، الشريك بإقامة أول معرض فني »مستقبلي« قبل مئة عام من اليوم، فأحدث انقلابه الشهير في الوعي الفني في الغرب.

 

وينقلنا الحديث إلى عامين بعد الثورة؛ تفاقمت الأزمة بين غوركي ولينين حول تعامل الثورة مع الثقافة في وجودها المعنوي والمحسوس، وحول ما أجازه الأخير من تعامل مع المثقفين. وبنتيجة الأزمة سافر غوركي في خصومة إلى ألمانيا للعلاج. وهنا تنبه لينين لحراجة أن تتجاهل الثورة الموقف التقدمي الذي تمسك به غوركي، فاختار أن يرسل الناقد الأدبي اللامع، وأكثر الحزبيين ثقافة، نيكولاي بوخارين الشهير، الذي لا يشكو من علة، للعلاج في ألمانيا، بمهمة تم ضبطها بعبارة واحدة: أن يبقى غوركي في خصومة مع الثورة، وأن لا يتجاوز ذلك إلى العداء.

 

طبعاً، كان ذلك الخلاف، بين غوركي ولينين،» بسيطاً«؛ سينتحر يسينين ومايكوفسكي ويهاجر آخرون في الأثناء، وسيظل غوركي يدافع عن فكرته الحاسمة؛ ليس أخطر من الموت بقرار. وهذا الموت لا يحدث إلا ببندقية من أمل خائب، وأن الآمال الكبيرة يجب أن تتوخى السداد، وأن لا تخيب، ولا تُخيِّب أمل الإنسان، من بدايتها حتى آخر أفقها!

 

الحوارات الطويلة بين غوركي وبوخارين في منتجع العلاج في ألمانيا، ورسائلهما المتبادلة لاحقاً بعد عودة بوخارين إلى الوطن السوفيتي، تكشف جزءاً مهماً من خبايا التطورات في ذلك الوقت، وبعض الحيثيات المهمة حول التروتسكية، التي يتحفظ غوركي على صاحبها، مع علاقته الجيدة به، من قبل الثورة. واللافت أن هذه الحوارات منحت غوركي في شخص بوخارين صديقاً مقرباً، إلى جانب صديقه الأعزّ الآخر، رفيقه القديم في مجموعة «إلى الأمام» الحزبية، أناتولي لوناتشارسكي.

 

ومنذ بداية العشرينات، وحتى أواخرها، تنشط المراسلات والملاحظات والاستشارات بين ستالين من موسكو وغوركي من ايطاليا؛ ويتعامل الرجلان في البداية مكتفين بالإعجاب المتبادل، فقد كان غوركي يعتقد أن الثورة يمكن أن تتحول إلى أضحوكة بغياب ستالين، وكان غوركي بالمقابل ذلك الكاتب المفضل عند القارئ ستالين (في أدبه وآرائه) مكرراً بذلك إعجاب أنطون بافلوفيتش تشيخوف الكبير بالكاتب «الشاب».

 

في أواخر العشرينات، حينما دق أبو الخارجية السوفيتية الشهير، فيتشسلاف مولوتوف، ناقوس الخطر متنبئاً بحرب عالمية إمبريالية محتومة تقع في غضون أربع إلى ست سنوات، استنفرت أعصاب ستالين ووعيه نحو تمتين الوضع الداخلي، وكانت ضمن أولوياته العاجلة استعادة غوركي إلى موسكو، بدور نافذ، بدأه مع بداية الكساد العظيم في أميركا!

 

وعاد غوركي، فأضاف إلى أعباء الحرب كلفة عالية للثقافة وفرض احتضانها في كل مؤسسات الدولة، بدءاً من التعليم وليس انتهاء بالجيش. فرضها على الدولة السوفيتية، وسرت من بعده إلى اليوم، تتحملها روسيا ما بعد السوفيتية، ولم تتخل عنها إلا روسيا يلتسين وكوزيريف »الأميركية«، الميالة إلى الطعن بغوركي.

 

طبعاً، مات غوركي بداية النصف الثاني من الثلاثينات، ولم يعش حتى تحقق نبوءة مولوتوف، ونشوب الحرب التي أمضى ستالين ووزير خارجيته عشر سنوات في التحسب لها. لكن خلال تلك الحرب، كان ستالين يسهو فيشير إلى غوركي بكلام لا يستقيم مع حقيقة أنه مات، وحينما ينبهه الحاضرون بذلك، كانت ترتسم على وجهه لهنيهة إمارات الفزع، كأنما تلقى للتو أنباء خسارته الحرب برمتها. وكان عادة ما يعاجل بالخروج من لحظته المفزعة طالباً إيصاله هاتفياً بهذا القاطع العسكري أو ذاك.

 

جرى السطو على خزانة غوركي، فأفرغت من محتواها الحريات والحقوق المدنية وحرمة الثقافة وأولويتها على السياسة وحصانة المبدعين وتمكين الإنسان بمواجهة الحكومة وتعزيز دور المجتمع مقابل الدولة، وتم تحويلها من جوهرها الثوري إلى قيمة إحسانية توعوية تبيعها في مجتمعاتنا اليوم منظمات دولية، خلقت لتستوعب في إداراتها وتسهم في إشغال الكادر الانتهازي الذي كان أعلن عن نفسه مع بداية الحرب الباردة بصخب هائل باعتباره «اليسار الأوروبي»!

 

وهذا كله، يعيدني إلى فكرة جوهرية: لقد عاشت الرأسمالية العالمية طوال المئة عام الماضية على فائض القيمة السوفيتية، تحديداً!

 

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

أضف تعليقك