الدول الأوروبية المحتلة

الدول الأوروبية المحتلة
الرابط المختصر

 

 

ثمة إحساس عميق بضياع الروح الأوروبية، التي صمدت برغم نتائج الحرب العالمية الثانية، وعاشت حتى في ظل أسوأ الزعامات المحافظة، ومنها مارغريت تاتشر الريغانية؛ بل أن الاستغراب الذي كانت تثيره أوروبا، بإنتاجها للمحافظين من كل الأنواع والأصناف التي تتناقض مع صورتها الحداثية، لم يعد أكثر ما يثير القلق.

 

لقد وصل حال «القارة العجوز» إلى درك يجعلها تختار لقيادتها الشخصيات الصغيرة، من السياسيين أصحاب العقليات «الشرق أوسطية» الذين يعتقدون أن مجرد انتخابهم يعني أنهم أكبر من الفكرة الأروبية نفسها، أو الارتهان لنزوات الأثرياء من أصحاب المال الذين يخطر ببالهم أن مواهبهم المافياوية الفطرية، يمكن ترجمتها إلى زعامة سياسية.

 

لذلك، ليس بلا معنى، لدى تأمل الحال الأوروبية اليوم، تذكّر أن اغتيال رئيس الوزراء السويدي أولف بالمه، أواسط ثمانينات القرن الماضي، يمثّل منعطفاً حاسماً يؤشر على ا­­­­­­­­نتصار الهجمة التاتشرية الريغانية على الروح الأوروبية؛ تماماً كما ليس من المستغرب أن تشير التكهنات وتتوجه التحقيقات في حادثة الاغتيال إلى الاستخبارات التاتشرية والريغانية، باستخدام أدوات نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وبدعم من الأذرع الإسرائيلية.

 

وهنا بالذات، لابد من ملاحظة أن «الريغانية» هي «أميركانوية» تلغي الروح الأوروبية، التي ارتبطت في وقت ما بقيم الحرية، وأنتجت في القرن العشرين واحدة من أغنى المراحل في الفلسفة والثقافة والفن والأدب، وشهدت تراجعاً أوروبياً عن القيم الاستعمارية، والذهاب إلى حد إدانتها، والاعتراف بالثقافات الأخرى.

 

وجسدت الريغانية بذلك انتصار أميركا على أوروبا، الذي قاد إلى احتلالها ضمنياً، واستعمارها سياسياً مع سياسيين من حجم شيراك وساركوزي وهولاند، في قارة ليس فيها سياسي إلا ابنة القسيس التي نشأت وعاشت حياتها في ألمانيا الشرقية!

 

وهذا الاحتلال الأميركي لأوروبا، الذي فرض نفسه في عهد جورج بوش الابن، استنفر بعد استرخاء في عهد باراك أوباما وقطع الطريق على توجهات بوتين الأوروبية، وبنى الحواجز أمام علاقة روسية أوروبية طبيعية، مستخدماً الإسفين الأوكراني. ولم يكن هناك في أوروبا، زعيمٌ يمكنه رؤية الاحتلال الأميركي، أو أن يلاحظ أدواته، أو ينتبه إلى الفوبيا الأميركية من تكاتف العالم القديم.

 

وفي الأثناء، لا يملك المرء إلا أن يلاحظ أنه حينما اتضح الموقف الأميركي الحقيقي من أوروبا عبر فضائح التجسس وأزمات التنصت على هواتف المسؤولين الأوروبيين وعبر تسريبات ويكيليكس ومن خلال الشتيمة الأميركية الشهيرة، يتم تمرير الأمر باعتباره مجرد حيثيات غير مرغوبة «متوقعة» بين حلفاء؛ بينما في الواقع لا شيء متوقع هنا، سوى أن العلاقة ليست بالفعل مع حليف، بل مع سلطات احتلال. وهذه العلاقة نفسها هي ما يجعل الفلسطيني يتوقع التجسس والتنصت من الاسرائيلي!

 

ومحصلة الاحتلال تقود إلى رضا أوروبي باتخاذ مواقف لا تنسجم مع مصالحها، ولا تعبر عن روحها. تماماً مثل موقفها الأخلاقي المتهلهل بما يتعلق بأوكرانيا. وأقل ما فيه، أن حلفاءها هناك هم زمرة من الفاسدين، الذين «ترعرعوا» برعاية الاهتمام السياسي الأوروبي الذي حول النشطاء المدنيين إلى أقلية حاكمة «أولغارش» غارقين في الجريمة المباشرة؛ بعضهم يرعى مجموعات التطرف الإسلامي، وبقيتهم يرعون حركات النازية الجديدة الإرهابية.

 

ولابد من أن أوروبا الحقيقية، لو كانت موجودة، لشعرت بالخجل من أن أعداءها في أوكرانيا هم أولاً شباب بقيادات شابة، وليس لهم تاريخ في الفساد أو علاقة بالحركات الإرهابية، لا الإسلامية ولا النازية الجديدة، ويرفعون مطالب هي من صميم قيم أوروبا قبل أن تقع تحت الاحتلال الأميركي!

 

وهذا الواقع لا يحيي فينا فقط الحنين إلى الراحل أولف بالمه، أو يذكرنا بوالتر أولبريخت، أشهر رؤساء ألمانيا الديمقراطية أيام الحرب الباردة، الذي لم ينصع لحليفه السوفيتي، كما ينصاع السياسيون الأوروبيون اليوم للاحتلال الأميركي. بل ويجعلنا نعيد ترتيب موقفنا من الألماني العنيد، إريك هونيكر، الذي لم تجعله الأيادي السوفيتية، التي هيأت له خلافة أولبرخت، ينسى أنه قائد دولته، وأنه لا يجدر به تقبيل الأيادي، ما جعل منه ذلك «الألماني العنيد».

 

المؤسف أن أوروبا، بانحيازاتها التي حددتها الحرب الباردة، سقطت بالقدر المحتوم تحت الاحتلال الأميركي، إلى درجة لم تعد فيها عبارة «الأراضي الفلسطينية المحتلة» فريدة إلى درجة إغفال حقيقة أننا نشاهد كل يوم، مع كل نشرة أخبار، وفي وجه كل «زعيم» أوروبي، كل تلك الدول الأوروبية المحتلة!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.