الخروج إلى "الثقب الأسود"
هل يمكن أن يحتفظ إنسان اليوم بخصوصية حياته، في زمنٍ باتت نوافذ الشخصيات الاجتماعية وأبوابها شبه مُشرعة لكلّ فضولي ومتطفِّل؟
سؤالٌ أطرحه عَلَناً، مبعثه الاستنكار كلّما تواصل الحديث عمّا "يُكتب" على الصفحات الخاصة بالبَشَر، المبثوثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يباغتني ركام "الكتابات" السهلة، السريعة، الأقرب إلى الهذر والثرثرة، ولا نعدم سِعة الادّعاءات والتعالم والتفاصح الفارغ، ولا بأس بجرعات ثقيلة من إطلاق "الفتاوى" في شأنٍ عام يتطلب تأنياً وتدارساً مسؤولاً– أكان حدثاً سياسياً، أم مسألة دينية، أم حكاية ذات بُعد اجتماعي نُشرت في أحد المواقع. يتواصل الحديث، فأُنصت له لأسمعَ أحكاماً حاسمة تُنثر كيفما كان لتصيب أشخاصاً في مضمون سِيَرهم وحياتهم. "كتابات" يصلح بعضها لأن يُدرَج في دفاتر اليوميات المخصصة لأناسٍ يبتغون "التنفيس" عمّا في صدورهم، أو "إعلان" رأيهم في أيّ حدث يحدث. باختصار: طرح كل ما يخطر على البال، عَلَّ أحداً يستجيب فيكون "التواصل"!
من هنا يولد السؤال: عن أيّ ضربٍ من التواصل يكون البحث؟
ربما لم أُحسن صياغة سؤالي، فها أعيد النظر فيه، فيكون:
هل مَن "يكتبون" كلّ هذا إنما يبحثون، فعلاً، عن "تواصل" يبنون من خلاله رأياً عاماً يعممونه ليكون أداة ضغطٍ على المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين من أصحاب القرار، فيصلحون ما هو بحاجة للإصلاح، مثلاً؟ أم أنّ المسألة برمتها تنحصر في العمل على "الخروج إلى العَلَن": الخروج من ضيق حجرات البيت ورقابات أهله (بكلّ أوصاف قرابتهم/ قرابتهن) والانطلاق في "فضاءات" هذا الانفتاح الممتد بلا حدود: الخروج بآراء وأفكار ليس من الممكن، أو المسموح، الإفصاح عنها مباشرةً، وجهاً لوجه؛ إذ إنَّ ضغوطات المجتمع "المحافظ" (ثمّة ريبة تتملكني في مصداقية هذه المحافظة؛ فآلاف الشواهد اليومية تؤكد زيفها) تحول دون الإفصاح عنها "لحماً ودماً"! الخروج من الواقع الفعلي الحياتي الذي ينتقص من الكينونة الفردية ويحرمها اكتمالها بشطب متون حريتها أن تكون كما تشاء أن تكون، والدخول في واقعٍ افتراضي مفتوح، حُرّ، متحرر، أثيريّ، بلا رقابات ناهية ومحاسبات عِقابية؟
إذا كان كلّ، أو بعض، مما جاء في فحوى سؤالي المتشعب؛ فإنَّنا حيال حالات "هروب إجتماعيّ جَماعيّ نحو أحلامٍ تُكتب بأجهزة تكنولوجية، وتتمظهر على شاشات إلكترونية، ويتمّ التفاعل/ التواصل معها عن بُعد!"
أوليس هذا، في أهمّ مخرجاته، الدليل على أزمةِ وجودٍ كبرى تجتاح الفرد المُفْرَد، المُهَمَّش، داخل مجتمع مسجونٌ بأكمله في متوالية لا تنتهي من أزماتٍ تخلخله في قِيَمه، فيلوذ إما إلى التدين على نحوٍ متطرف؟ أو التحرر على نحوٍ متفاجر؟ أو العيش على نحوٍ عنيف عِدائي؟ أو الانزواء المتعفف على نحوٍ مريض؟
أذاهبون نحن نحو تحللٍ وتآكلٍ متدرجين (ليس انحلالاً، أقصد) لن ينتهي بنا سوى إلى ذاك "الثقب الأسود" – بالمدلول الاجتماعي/ السياسي/ الأخلاقي/، فنتحول كينونة مشوهة تسبح في فضاءات تعويضية، ولا تستقرّ على أرض مجتمعٍ راسخة تمنح قاطنيها معنىً يقتنعون به، ويَقنعون بتنميته؟
أن يعمل إنسان اليوم- إنساننا العربي بالتحديد - على كسر نوافذ حياته وأبوابها، ليدلق "حقائق" شخصيته على هذا النحو غير المسبوق، متفاخراً (من غير إسناد)، متعالماً (بهشاشة معرفية)، متسلطاً (بقوة الوهم)، سليطاً (بحجاب الخفاء)، زائفاً (بزبنة المظهر)، مزَيَّفاً (بفجاجة الكذب)، راجياً آملاً (بسذاجة الجهل)، شاكياً (لمن لا يهتم)، مُديناً (بحقدٍ وبلا حق)، مُبَرِئاً (بتساهلٍ متواطئ)، مُكَّفِراً (بتعصبِ جَهولٍ أعمى)، متهماً (بوحيٍ من قوة الإشاعة المُشاعة)، متواقحاً (لا أحد يحاسب)، متأدباً ( بدافع الحيطة والحسابات الآجلة)، إلخ.
على ماذا يشير كل ما سبق؟
أن نكون على ما نحن عليه، حقاً وحقيقةً.
أن نكون بكامل ثياب النقصان فينا، وفضيحة عُري اكتمالنا الوهمي المُفترَض، والرضا عن ذاتٍ لا ترى وجهها الحقيقي على سطح مرايا أيامها العِجاف.
عندها: ليس من خروجٍ إلّا إلى ذاك "الثقب الأسود"!
· إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.