الحرب حق إنساني
ربما يحق لنا، نحن العرب، أو على الأقل الشرائح العريضة منا -التي تدمرت بفعل العملية السياسية المسماة "سلامـ"ـاً، وتحيّدت إرادتها وحقوقها المدنية والسياسية لصالح تمرير الهيمنة الأمريكية والنفوذ الغربي العميم في بلداننا- أن نستثمر بالحرب، وأن نتعامل معها كونها فرصة واقعية لحل تاريخي يتيح لنا أن ننسجم مع أنفسنا.
أنفسنا، التي فيها وفي قرارتها، تكمن حربٌ ضروريةٌ ولازمة.
أعرف أنه بات من المشين، على نحو ما، الحديث عن الحرب، لكن هذه خصلة تنتسب لـ"الليبرالية" العربية الهجينة، ولا علاقة لها بالواقعية الرأسمالية والليبرالية الغربية، التي ترفع شعار الديمقراطية لكي تشن حروباً دمويةً مدمرة، وتتشدق بالحرية الاقتصادية لتبني ثراءها على وكلاء يسرقون من الناس بيوتهم ووظائفهم، قبل أن يأتوا على كرامتهم وحريتهم.
تنتهي برامج الليبرالية بتحويل الشرائح الاجتماعية الواسعة إلى سلعة: مومس وخادم!
لا يجوز لي ولا لغيري تجاهل أن هذه التوجهات لا علاقة لها بمفرزات الغصة العربية العميمة، والإحباط العميم، الذي ربّى في وجدان كل واحد منا أملاً بالحرب، وأوجد في كل نفسٍ من أنفسنا، بغض النظر عن توجهاتنا، إيماناً ويقيناً عميقاً بأن الانتصار في تلك الحرب المؤجلة ضد ذلك العدو بالذات، هي سبيلنا الوحيد لاستعادة إيماننا بأنفسنا وفرصنا في الحياة.
حينما تعطلت آمال التغيير في أمريكا اللاتينية، ودارت دورة السياسة والسيطرة الأمريكية بالقضاء على حركة جيفارا، وقادت إلى انقلاب بينوشيه الكارثي على الديمقراطية في تشيلي (لأنها جاءت باليسار)، برزت مافيات المخدرات وزعمائها في القارة اللاتينية بوصفها تجربة وطنية تحقق بديلاً محلياً، في هذه أو تلك من المدن، ولمن أعياه الأمل في العثور على فرصة ولمن أغلق بوجهه باب تحقيق طموحاته في خوض المواجهة مع الغرب، واهتدت على نحو بديهي إلى توفير نوع من التكافل الاجتماعي في بيئة المنظمة المافياوية.
نحن لم ننتج منظمات مافياوية خالصة، وبكل المعايير تعدّ تجربة حزب الله، مثلاً، لافتة!
وفي السياق، فإن القاعدة وداعش وغيرهما، هي جماعات وجدت بالتساوق مع السياسة الغربية العاجزة عن أن تمد يدها مباشرة في النار. بل استخدمت لعمل قرصة أذن لفرنسا من قِبل حليفها التركي في المنطقة على خلفية موقف باريس القريب من مذابح الأرمن.
وهذا يقين فرنسي اضطر أحمد داوود أوغلو أن يعقد مؤتمراً صحفياً خاصاً يحلف فيه بشرف مخابراته أنها لم تُقصّر في التعاون مع نظيرتها الفرنسية، ويحاول فيه أن يبرر خرْق التفاهم القاضي بتسهيل دخول المتطرفين الفرنسيين إلى سوريا. وعدم السماح لهم بالعودة إلى باريس دون ضمان جانبهم.
يتوجب أن يكون هنا، اليوم، عاقلٌ ما يلاحظ أن أنفسنا العربية خوَت من أي أمل، ولم يتبق هناك إلا تلك الحرب النهائية، المأمولة، التي لا يوجد إنسان عربي إلا ويؤمن بها في دخيلته فرصة حتمية لتحقيق العدل وإثبات الذات والتحرر من الشعور بالهزيمة والتخلص من التبعية.
ويتساوى في ذلك المشرد منا في الشارع والمتنعم بالسلطة والمناوئ للغرب والمتحالف مع الأمريكان، ولا يتنكر لهذه الحقيقة وهذا الأمل الدفين إلا أولئك الذين يمتلكون القدرة على الكذب المبين على أنفسهم وعلى الناس، ويتمتعون بمواهب إنسانية فذة في تجاهل آمالهم ووجدانهم!
المشكلة العويصة في أن تأجيل هذه الحرب المؤجلة أصبح مكلفاً جداً، من حيث أن ذلك يقود دولنا إلى مزيد من الارتهان، ويدفع شبابنا للاستجابة إلى أبسط محاولات التغرير بهم ودفعهم إلى الانخراط في صفوف الجماعات الإرهابية التي وجدت أصلاً للنخر في الجسد العربي الإفرادي والاجتماعي، وحز رقابنا لتأمين تسلية كافية في الملهات الغربية.
وعلي أن أقول هنا أنها ليست حربَ دول من جهتنا ضد شعوب، لكنها حرب نضطر إليها، وهي حرب شعوب مستضعفة ضد دولٍ، في سبيل حقوق لا تنام لأن الجغرافيا السياسية على الأقل لا تتركها تهدأ في النفوس، ولأن من حق البشر أن يدافعوا عن أنفسهم، وأن يقاتلوا من أجل نجاتهم، إن فسدت القوانين وشرعة البشر، أو إن كانت سلطة هذه القوانين والشرعة بعيدة عن أن تشملهم بحمايتها.
وواقعياً، لا يمكن وصفي انطلاقاً من دعوتي هذه كداعية حرب، بل أنا عملياً نصير حقوق انسان!
على الأقل لأنني لست ونستون تشرتشل، الأديب الكبير حائز نوبل عن مذكراته التي تسرد دوره في عقد أركان أسوأ حروب القرن العشرين وقمع شعوب المستعمرات، ولا تاجر الدجاج الكبير جورج بوش، الذي طوع الإمبراطورية الأمريكية لخدمة المصالح التجارية لمزرعته، وشغّل في سبيل ذلك البنادق في مهرجان إراقة الدماء حتى قبل أن يصبح رئيساً.
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.