"التغميس خارج الصحن"!

"التغميس خارج الصحن"!
الرابط المختصر

 

 

أستهلّ قائلاً بعبث العثور على الكامل المتكامل في الأفعال الصادرة عن البَشَر. أقول هذا مستنداً إلى قناعتي بنقص دائم يكتنف طبيعة الإنسان، ما يعني أنّ المعايير تبقى نسبية ما دامت الأفعال ليست مطلقة ولن تكون، تماماً، كما نشتهي أو نتمنّى أو نأمل.

 

ولأنّ الواقع الحياتي المعيش يمضي على هذا النحو النسبي، فإنّ مطالبتنا بماهو أكثر إنما يشير، في الحقيقة، إلى أحد احتمالين: تحميل أصحاب الأفعال ما لا يحتملون، أي أننا نمزج الابتزاز بالمزايدة نفرضهما فرضاً. أو أننا، ببساطة، لا نضع المسائل قيد القياس والتقييم داخل الحيّز الطبيعي الذي تمخضت عنه، وهذا الأمر يدحض "التعالم والتفاصح" ويدين مَن يمارسه بتفقُه زائف يدعو للرثاء.

 

على ضوء ما سبق تبدو الانتقائية محصلة حتمية. أن ننتقي من الفعل ما يناسب رؤيتنا للعالم، أو ما يلتقي مع مصالحنا – أو ما نعتقدها كذلك، وبذلك يحدث إغفال جزء مهم من الفعل وكأنه ليس أساساً له، أو بدونه لا يكون الفعل فعلاً أصلاً. هذه الانتقائية ملازمة للعديد العديد من رؤيتنا للعديد العديد من القضايا والأخبار حين تلقينا لها. وسأضرب مثلاً حديثاً جداً، داعياً لفحص الانتقائية المجلوبة في كيفية تعاملنا غير المتوازن، وغير النزيه أيضاً.

 

تناقلت وكالات الأنباء خبراً يفيد بأنّ مؤسس ومالك الفيس بوك، مارك زوكربيرج، الأميركي الجنسية اليهودي الديانة، قد هاجم المرشح الجمهوري دونالد ترامب لموقفه العنصري القبيح من المسلمين، متهماً إيّاه بالتفاهة وإدارة الظهر لمبادئ الحرية في الولايات المتحدة. وجاء هذا الإنكار على صفحة مسلمة أميركية اعترضت على ترامب؛ إذ أفاد بما يعني أنّ يهوديته تتعارض أصلاً مع دعاوي المرشح العنصرية، بعد أن سجّل كلمة like تأييداً لرأيها.

 

والآن: كيف كان تلقي بعضنا لهذا الخبر، وكيف قام بتفعيل عملية "الانتقاء" بقصدية تبدو (في نظري) تحمل المعنيين معاً: مزيج الابتزاز مع المزايدة، والتعالم والتفاصح في غير موضعهما؟ باختصار، كانت ردّة الفعل على هذا النحو:

 

ما دامت يهودية مارك زوكربيرج جعلته يستنكر موقف دونالد ترامب، لماذا لم يستنكر أيضاً، والحالة هذه، ما يفعله اليهود (لاحظوا أنه لجأ إلى كلمة يهود وليس الإسرائيليون أو الصهاينة) في فلسطين ضد المسلمين هناك (وليس العرب أو الفلسطينيون

 

هذا المثال أكثر من كافٍ للتدليل على انتقائية يظن أصحابها أنهم، باللجوء إليها، يفيدون قضيتهم من جهة، و"يفضحون" النقص المفترَض في فعلٍ محدد وُلِدَ ضمن مسألة محددة، من جهة أخرى. غير أنّه من الواضح زيف دعوى كهذه لأنها، عند التأني في قراءة المسألة التي نحن بصددها، لم تلتزم "حدودها" أو تعاينها في سياقها. والتعبير الشعبي القائل "التغميس خارج الصحن" أكثر من دالٍ على هكذا تفكير، ينتج هكذا أسئلة.

 

ولا تقف المسألة عند هذا الحدّ من المغالطة؛ إذ أدرج أصحاب هذه الدعوى أنفسهم داخل "اللعبة الدينية الخبيثة" التي أراد الإسرائيليون حبكها من خلال تصوير الصراع حول المسجد الأقصى وكأنه صراعٌ دينيّ محض بين اليهود والمسلمين! فهل صراعنا معهم صراع دينيّ، أم صراع على وجود تاريخيّ ممتد بين عربٍ فلسطينيين، وكيان استعماريّ استيطانيّ عنصريّ يبتغي إلغاء سواه بحجج شتّى.. من بينها، ووفق السياق الذي يختاره، الحجَّة الدينية؟

 

لماذا لا نكتفي من مارك زوكربيرج بما أملاه عليه دينه (بحسبه)، وما أدركه من مبادئ، فلا نطالبه بأكثر من ذلك وكأنه واحد منا؟

 

لماذا نعجز، كثيراً من المرّات، عن رؤية حقيقة صراعنا مع عدونا الإسرائيليّ الاستعماري، فلا نندفع لأن نغمس خارج الصحن؟ لا نستجيب.. كي لا نخيب!

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك