التعليم العربي وأسئلة الانهيار

التعليم العربي وأسئلة الانهيار
الرابط المختصر

 

في تقديم لموضوع هذا المقال، من المناسب الإشارة إلى أن حركة التعليم في العالم العربي والاستثمار فيه، وهو أهم وأعقل الاستثمارات على الاطلاق، له عوارض سلبية فادحة. منها أن المؤسسات الأكاديمية التي انتشرت خارج حواضن العلم التقليدية، تمتعت بقدرات مالية ودعم لوجيستي وإسناد حكومي يستفيد من مصالح دولية أكبر بكثير مما هو متاح للمؤسسات الأكاديمية العريقة، الفاعلة في الواقع، وأسندت طوال عقود العقل والدولة العربية.

 

ولأن المراتب العلمية، التي تمنح للأفراد في الثقافة والعلم والمؤسسات الأكاديمية على حد سواء، هي صماء تماماً مثل الرتب الإدارية والعسكرية، ويسري عليها البروتوكول، فإن المؤسسات الأكاديمية حديثة العمر،  التي ما تزال تراهق في عالم المعرفة والعلم، لها سطوة أكبر مما تملك مثيلاتها العربية العريقة، وتجد أمامها طرقاً مفتوحة في سراديب "البرستيج" العلمي في العالم، لأسباب غير علمية، ولا أكاديمية.

 

أخطر ما في الأمر، أن هذا الواقع خلق جيلاً جديداً من الأكاديميين العرب، لا يمكن أن يعبّر وجودهم عن أي شيء علمي أو أكاديمي، سوى إنهيار العلم والمؤسسة الأكاديمية العربية، في جزء مهم من ظاهرة الانهيارات العربيةالتي عشناها في ربع القرن الأخير.

 

المصيبة الأشد، أن العلم الرسمي، وهو منظومة رأسمالية تماماً، هو فخر هؤلاء الذين يتباهون بشهادات من جامعات غربية، للموازنة بين بقائها والنجاح التجاري؛ فتتشدد مع مواطنيها، وتتساهل للغاية مع الطلبة دافعي الرسوم السخية، المدعومين من سفارات بلادهم. وهذا ما يفرض علينا إعادة النظر في أفكارنا المسبقة حول منظومة التعليم ومؤسسة العلم في الدولة السوفيتية، والعلاقة الفريدة بينهما، التي ليس فيها شركات ومصالح خاصة، ولكنها تملك مصالح متبادلة مع مؤسسات الدولة، والمجتمع. مع التشديد على مفردة «متبادلة»، بمعنى تأكيد المعنى الكامل للكلمة.

 

هذا الواقع يحضر في ذهني دائماً بينما أستمع إلى الجيل الجديد من الأكاديميين العرب، في المؤتمرات والندوات أم في الاستضافات التلفزيونية. وغالبيتهم يعبّرون في مداخلاتهم عن «إعداديتهم» لا عن أكاديمية يقدّمون أنفسهم بها.

 

وهؤلاء بالذات لا يفعلون، في كل ظهور لهم، غير الهتاف الطنان بـ«أب» فريدفي الحكم، لم تجد بمثله الأزمان. ولكنهم، مع ذلك، يفيضون بلا تردد بالحديث عن عبادة الفرد إنْ ذكرت أمامهم الدولة السوفيتية، أو التجربة اليوغوسلافية، ويجدون، بفضل الإعلام، الكثير مما يقولونه بثقة، ويقينية منقطعة النظير، ويمكنهم أن يعبّروا عن ترفعهم الأخلاقي إزاء «دموية» وديكتاتورية ستالين ، في نفس اليوم الذي يشيدون فيه بمنح جائزة إبداعية لملك بالكاد يقرأ الحروف!

 

ستالين نفسه، الذي يتابع الثقافة والإبداع بصنوفه المتعددة، الذي لفته في يوم عالم بسيط، تحدث عن الخلل الذي قد لا يكون في النظام الزراعي نفسه كلياً، ولا في أن المزارعين لا يبذلون ما في وسعهم؛ ولكن في جينات الأنواع الزراعية التي يجب تعديلها، باعتبارها النقطة الحاسمة في تعديل جودة الأنواع الزراعية. فدعمه، وأوصى برعايته. فخاض المجتمع العلمي السوفيتي معركة كبرى ضد الحزب وزعيم الدولة السوفيتية «الديكتاتور الدموي»، ولم يقبل بأقل من وصف هذه الأطروحة بالهرطقة. وفي لحظة انصياعه لموقف المجتمع العلمي (لاحظوا انصياع الديكتاتور الدموي) تحت وطأة فشل أول تجربة علمية، قال ستالين لرفاقه الذين كانوا يتبرمون من المسألة عبارة شهيرة: لا أتوقع أن تكتشفوا ذلك سريعاً. ولكني اكتشفت اليوم أننا نحاول بناء دولة اشتراكية، ولدينا بنى غير رأسمالية. ولكن قطعاً العلم الذي بين أيدينا هو علم رأسمالي رسمي، تماما.

 

طبعاً، ربع القرن الأخير مُسَجَّل باعتباره ثورة علم الجينات!

لم تَنْجُ الدولة السوفيتية، بكل ما اتصفت به من توجه عقلاني، من السقطات الرأسمالية، فما بالنا بمجتمعات هشة، ليس لديها ما تبرر وجودها في كيانات مستقلة، سوى أفكار هزلية، أو استدعاءات وطنية رخيصة لا أصل لها، ولا أرض واقع تسندها.

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.