التحليق في سماء معادية

التحليق في سماء معادية
الرابط المختصر

لا يمكن تجاهل التعبير عن التعاطف مع الطيار الأردني الذي وقع بيد تنظيم داعش الإرهابي. ولا يمكن تجاهل الارتباك في الأخبار الموجهة، التي تسميه في مطلعها أسيراً، وتدعوه في خاتمتها رهينةً. وهنا يثير الارتباك في تحديد صفته (أسير أم رهينة؟) أفكاراً مزعجةً. أفكاراً ليست أكثر ازعاجاً منها سوى أن المعلومات المتوفرة حول الحادثة هي أقل كثيراً من الحق البديهي في المعرفة والحصول على المعلومة، وحينما لا تتوفر المعلومة، تنتفي الفرصة في تقصي المسؤولية.

عموماً، رغم أهمية الأمر، إلا أنه ليس موضوع حديثي اليوم. ولكن أذكره لأنه أحد ثلاثة مواضيع صدمتني خلال الفترة الماضية، وجاء هو ليضع عنواناً موحداً لها: الحياة أصبحت تحليقاً منخفضاً فوق أجواء معادية!

الموضوع الثاني أتى مع الأخبار القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية؛ أخبارٌ مرّت مرور الكرام، وتقول إن أغلب الأمريكيين، اليوم، يجدون أن أساليب التعذيب، التي تنتهجها وكالة الاستخبارات الأمريكية (الـ"سي. آي. إيه") في عمليات التحقيق في السجون الأمريكية والخارجية والسرية مبررة.

وما يلفت أن هذا تزامنَ مع انشغال العالم خلال الفترة الماضية بالأمريكيين الذين خرجوا إلى الشوارع في الكثير من المدن في احتجاجاتٍ صاخبةٍ على عنف الشرطة ضد أمريكيين. وهنا، تتشكل المفارقة: الأمريكيون يؤيدون بطش أجهزة بلادهم الأمنية والعسكرية ببقية الشعوب، لكنهم لا يحتملون أدنى خرق لحقوقهم المدنية داخل بلادهم!

وهذا ما يمكن وصفه برشوة تقدمها الدولة للمجتمع، وتقوم على عزْل إنسانية الأمريكيين وحقوقهم عن سواهم من البشر؛ أي، الحصول على دعم المجتمع لكل الممارسات التي تستهدف الآخرين، مقابل مكاسب محلية تتمثل بقدر من الحريات والفرص ومستوى معيشة وحصانة، وهو ما يقودني للتساؤل: إذا كان عامة الأمريكيين ينظرون بانتهازية إلى أنشطة دولتهم الخارجية، فهل سيجد الأردن سنداً وظهراً أمريكياً في جهوده لاستعادة الطيار الشاب الكساسبة؟ وإن لم يجد، فأين الثقة التي يمكن أن تكون أساساً للتحالف مع الولايات المتحدة؟

الحادثة الثالثة جاءت مع نبأ إعدام 11 محكوماً في صباح واحد. الأمر الذي فهمته على نحو محدد بأن دولتنا متوترة إلى درجة أنها أرادت أن تقول لنا: "صباح الخير"، بطريقتها الخاصة.

وتذكرت أن ثمة مشكلة والتباس كبيران حول تحديد نوع العقوبة، حيث يقول فريق متطرف بمنحى ديني (عندنا وفي الغرب العلماني) أن "العقوبة يجب أن تكون من جنس الفعل (الإجرامي)". وهؤلاء أنصار عقوبة الإعدام، الذين لا ينفع اليوم أن تكون منهم الحكومة الأردنية، التي تشارك في تحالف دولي ضد "داعش"، المنظمة الإرهابية التي تستمرئ جز الرؤوس.

وهناك فريق آخر، يصر على أن نوع العقوبة يجب أن يكون "متناسباً" مع الجريمة. متناسباً معها وليس من جنسها. لأن الإصرار على عقوبة من جنس الجريمة يلغي التفوق الأخلاقي والحيدة المفترضة لأجهزة إنفاذ القانون، والدولة بعمومها، ويضعها نظرياً في تساوٍ أخلاقي مع المجرمين الذين تعاقبهم، ويجعلنا نفكر بسرقة من سرق، واغتصاب من اغتصب.

وأكثر من ذلك أن أولئك الذين ينحازون إلى القصاص وعقوبة الإعدام لن يشعروا بالراحة والطمأنينة إلى العدالة، حينما يجدون أنفسهم إزاء حادثة تجعلهم يتساءلون عن الفرق بين تنفيذ "حكم العدالة" والمجزرة.

الصدمة الحقيقية في الموضوع هي أن تنفيذ أحكام الإعدام كان جماعياً في صباح واحد، واستغرق تنفيذها ثلاث ساعات ونصف الساعة. لدرجة أن المرء يشعر بالشفقة والقلق حتى على الصحة النفسية، لمن كانوا مضطرين لتنفيذها وحضور "المجزرة" بحكم وظائفهم!

الجزء الثاني من الصدمة هو أن هذا الإعدام الجماعي لا يُفهَم إلا رسالةً. وهنا، فإن المستقبِل لهذه الرسالة التي ترسلها الدولة هو المجتمع، في سياق تعزيز المخاوف المحقة حول تغولها عليه، وينبئ بأن الحالة الأردنية في هذا المجال بلغت حدوداً حرجة.

الجزء الثالث من الصدمة، أن الاستفتاء الذي تناقلته وسائل الاعلام يؤكد أن حوالي 80% من الأردنيين يؤيدون تفعيل أحكام الإعدام، ما يعني أن المجتمع الأردني يرحب بالرسالة الفظة التي وجهتها الدولة إليه.

وإن كان هذا الاستفتاء دقيقاً، فهو يعني ان علينا أن لا نقلق فقط بشأن الدولة التي وصلت إلى حدود فظة في تغولها على المجتمع، بل علينا أن ننتبه كذلك إلى أن مجتمعنا بات متطرفاً، ويبتهج لسماع الأخبار السوداء، لدرجة أن جهة نقابية، هي نقابة المهندسين، تصدر بياناً تؤيد فيه خطوة الحكومة بتفعيل عقوبة الإعدام!

أعرف أن مجلس النقابة مسيطر عليه من قبل الإخوان المسلمين، وهم المفرخة الكبيرة التي أُستنبتت منها كل الجماعات الإسلامية الدموية المتطرفة، من تنظيم حسن البنا الاغتيالي المسلح إلى "داعش"، لكني أستكثر أن يصبح اليسار مسخرة وأضحوكة كونه شريك لهم في مجلس النقابة نفسه.

من بواعث قلقي البالغ أن وسائل الإعلام نقلت عن وزير الداخلية ما مفاده أن المجتمع الأردني منقسم بشأن أسباب ارتفاع الجريمة في البلاد، وأن هناك فريقاً يقول يعزو ذلك إلى تجميد تنفيذ أحكام الإعدام. فهل نفهم أن عقل الدولة ذهَب مباشرة مع الوزير إلى تبرئة السياسات العامة وغض النظر عن مساءلة المسؤولين، واتجه إلى اتهام وتجريم المجتمع، والتعامل معه باعتباره مجرماً طالما لم تثبت براءته؟

لا أقول إلا أن الحياة برمتها أصبحت، على ما يبدو، تشبه التحليق المنخفض فوق أجواء معادية!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

أضف تعليقك