التجربة السوفيتية

التجربة السوفيتية

 

 

 

لا يدرك العالم ما الذي يفوته اليوم، بينما يواصل ترديد الأفكار الدعائية الخرقاء من عهد الحرب الباردة حول التجربة السوفيتية، وما يضيّعه عليه هذا الاستسلام للفكرة الإعلامية العشوائية التي تقول إنها تجربة مهزومة «أثبتت فشلها»؛ وإلا فإن الفشل العميم في مواجهة الإرهاب، رغم كل الجهود الدولية والمحاولات المضنية لمواجهة تمدده، يستدعي بالضرورة، وعلى نحو فوري، التجربة السوفيتية.

 

علينا، بدايةً، أن نقر أن التجربة السوفيتية، نفسها، ليست خبرة في مواجهة الإرهاب. لكنها سياق يصنع بيئة لا تستجيب ولا تُنبت مثل هذه الآفة الخطيرة. وذلك بالتعامل مع الحاجات الروحية والمادية للإنسان بوصفه إنساناً، أي بوصفه فرداً مستقلاً وكائناً اجتماعياً في الآن نفسه. وهذا أمر مهم على نحو استثنائي في وقت ينتعش فيه الإرهاب باستغلال الأديان على وجه الخصوص.

 

وهذا مفهوم في عالم اليوم، الذي أضحت فيه الأديان هي النهر الوحيد الذي يروي الجوانب الروحية في حياة الإنسان، لا سيما مع تراجع مشاريع العدالة الاجتماعية، وتغول الثروات على المجتمعات والدول، وتحوّل الفن وصنوف الإبداع الأخرى إلى «بزنس ترفيهي».

 

لقد ركزت التجربة السوفيتية على تلبية الجوانب الروحية، وقامت على قناعة مفادها أن ترك الإنسان معتمداً على المعتقدات الدينية وحدها في تلبية هذا الجانب، هو من جهة مخاطرة تقود حتماً إلى التزمت والتطرف ومعاداة العلم والعصر، أو بعض مظاهرهما، ومن جهة أخرى يجعل من الإنسان مفصلاً صغيراً في ماكينة القوى العمياء، التي تكرس مسيراً غير إنساني للتاريخ.

 

وهنا، فإن الذين يتأثرون لليوم بمخلفات الدعاية من عهد الحرب الباردة، لا يمكنهم أن يصدقوا بسهولة أن التجربة السوفييتية لم تصنع إنسانها الجديد المؤمن بالعلم بواسطة معاداة الأديان ومحاربتها والتضييق على معتنقيها، وبالمقابل لا يمكنهم أن ينكروا أن هذه التجربة صنعت إنساناً جديداً من خلال رعاية الفنون والثقافة وصنوف الإبداع، وتشييد بنيتها التحتية وتعميمها وإتاحتها لقطاعات الشعب كافةً، وتأهيل كوادرها، وجعلت منها زاداً يومياً مطلوباً ومرغوباً، وعززتها بمكانة اجتماعية مرموقة لصانعيها.

 

لقد وصل مستهلكو الثقافة اليوميين في الاتحاد السوفيتي إلى عشرات الملايين، بينما دور المسرح والسينما والمؤسسات الأدبية والثقافية والمكتبات ومتاجر الكتب والأصناف الابداعية تستضيف يومياً طوابير طويلة من هؤلاء، ليس بسبب النقص، إنما بفعل ضخامة الطلب على المنتج الثقافي والفني. ويمكن للمرء أن يسمع حكايات كثيرة حول طوابير من ثلاثة أو أربعة صفوف تمتد تحت المطر مسافة ربع كيلومتر تنتهي بباب متجر كتب يبيع كتاباً جديداً. إن إنساناً يقف في مثل هذا الطابور، لا يمكنه أن يتورط بإرهاب يستند إلى أفكار جاهلة!

 

إن جوهر التجربة السوفيتية في هذا المجال هو أن الجانب الروحي في حياة الإنسان يجب أن لا يكون حكراً على فكرة غيبة، ولا على فكرة واحدة، وأن من الضرورة إشباعه بكل ما أنجزت الإنسانية عبر تاريخها من أفكار وإبداعات وتجارب وخبرات. وأن هذا واحداً من الحقوق الإنسانية، وجزءاً من الحوافز التي يجب أن يقدمها المجتمع للعاملين في قطاعاته، إضافة إلى ضرورة توفير البنية التحتية والمنظومة الإدارية القادرة على جعل هذا الانسان شريكاً في هذا الإرث الروحي، ومساهماً فيه، وشاهداً على تطوره.

 

يمكن للكثيرين أن يقولوا إن التجربة السوفيتية مرتبطة بإيديولوجيا معينة، ولن يكونوا مخطئين كثيراً. لكنهم لن يكونوا مصيبين إن اعتقدوا أن من غير الممكن التعامل مع عناصر التجربة السوفيتية بمعزل عن الجانب الإيديولوجي. بل إن هذا لب تجربة روسيا اليوم، التي تنهل من تجربة الاتحاد السوفيتي، بمعزل عن النظام السياسي والإيديولوجيا التي كان يتبناها، وها هي تنجح في استعادة مكانة دولية مرموقة.

 

والعالم الذي يفشل في مكافحة الإرهاب، يمكنه أن ينتبه إلى أن التجربة السوفيتية تلغي أسباب وجوده أصلاً!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك