الأحكام والتهم المغفلة

الأحكام والتهم المغفلة
الرابط المختصر

 

 

لا يندر هذه الأيام أن تتصدر نشرات الأخبار السياسية العربية أنباء عن أحكام إعدام بالجملة؛ وأن يتم استقبال هذه الأنباء، على الوجهة الصحيحة التي أُرسلت عليها، باعتبارها جزءاً من عملية تحول سياسي في هذا البلد أو ذاك، من دون أن يثير ذلك أي امتعاض، أو أي سؤال حول معنى ومغزى هذه الأحكام، وما تثيره من شكوك جذرية في شعبية وديمقراطية ذلك التحول السياسي.

 

وفي الوقت الذي لا يغيب فيه عن بال أحد أن هذه الأحكام، في أغلبها، تتقصد المنتمين إلى هذا التيار السياسي أو ذاك، فإن هذا لا يثير اعتراضات مهمة حول الطبيعة السياسية لهذه الأحكام، من خارج المعنيين المباشرين بالمحكومين. ولا يدفع أحداً غيرهم للتشكك بذلك القضاء، الذي يصدرها تباعاً، محققاً فجأة معجزة مذهلة في مطابقة روح العدالة مع إرادة السياسيين وحاجات السياسة، حتى أدق التفاصيل.

 

في بلد عربي كبير، أصدر قاض واحد نصف أحكام الإعدام، التي أصدرتها المحاكم، في بلاده، في فترة لا تزيد عن إثني عشر شهراً، هي عمر المرحلة السياسية الجديدة هناك، والتي تخدمها هذه الأحكام. ومن اللافت أن عدد هذه الأحكام التي أصدرها هذا القاضي (القضاء) ويحتجزها في أدراجه مفتي الديار (المؤسسة الدينية) بلغ رقماً قياسياً يقع في مكان ما بين الثلاثمئة والأربعمئة حكم.

 

وهذا العدد، على الأغلب، يفوق أحكام الإعدام التي أصدرها أي قاض في العالم خلال حياته، ويتجاوز عدد ما صدر منها في سنوات كثيرة من عهد حكم "الطاغية"، الذي تم خلعه، وفتح خلعه المجال للتحول السياسي الجديد.

 

ولا أحد يتساءل:

- لماذا تحال إلى هذا القاضي بالذات، الذي لا يعرف عنه تميز ما ولا مكانة قضائية خاصة، دوناً عن آلاف القضاة في بلده، قضايا معينة تتعلق بمعارضي الحكم الجديد وخصومه السياسيين؟

- ولا يسأل أحد عن معنى ومغزى أن يكون عهد النظام الجديد، في هذا البلد، قد سجل ارتفاعاً مذهلاً في أحكام الإعدام بقضايا فيها شبهة سياسية، رغم أنه يقدم نفسه بوصفه عهداً جديداً "ديمقراطياً" و"من الشعب وللشعب".

- وما معنى أن يبلغ بلد عربي كبير، "علماني"، مرحلة تصل فيها مؤسسته المدنية الأهم (القضاء) إلى التطابق التام مع السلطة السياسية في الموقف من المعارضين والخصوم السياسيين، بينما تتريث السلطة الدينية فيه (مفتي الديار) وتتردد في المضي وراء السلطة السياسية.

 

اللافت كذلك، أن المجموعة السياسية التي تتقصدها أحكام الإعدام، شاركت على نحو أو آخر في الإطاحة بنظام ذلك "الطاغية"، ثم ارتكبت جريمة محاولة الاستئثار بالحكم واحتكار السلطة، واختطاف العملية السياسية، وسعت لإقامة ديكتاتوريتها الخاصة بالبلاد، وأعتبرها أنا نفسي عدواً لدوداً.

 

ولكن الأحكام التي تصدر بحق أعضائها والموالين لها، وطبيعة وسيرة النظام الذي أطاح بحكمها، وعلاقته بالنظام السابق، والأحكام القضائية المخففة إلى حد البراءة في أحيان كثيرة التي أصدرها قضاءه بحق رموز نظام الطاغية السابق، يجعل المرء يتساءل: هل هذه الأحكام عقوبة لهذه المجموعة السياسية على جرائمها، أم انتقاماً منها وجزاء لمشاركتها في الإطاحة بالنظام السابق!؟

 

واقعٌ مثل هذا، يضع المرء أمام فكرة أساسية: إن هذا البلد الذي لن أسميه، ليبقى المنطق مجرداً من العواطف والمواقف، لا يزال تحت حكم مجلس عسكري، ولم يخرج من هذا الواقع، وهو للآن محكوم بهذه العقلية.

 

والحكم العسكري يقابله اليوم ويساويه حكم القوى الدينية، وجماعات التطرف الإرهابية، التي تتجسد كل أوصافها في دولة داعش، ولا يختلف عنها إلا بالخلفية الأيديولوجية، والأدوات المؤسسية والنصوص القانونية المكتوبة!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.
أضف تعليقك