الأجهزة الخدمية
الأجهزة الأمنية، حتى العلنية منها، في كل البلدان، مستودع أسرار، وحين تُقدم على الخروج إلى العلن بشأن قضية ما، فإن هذا يكون مبنياً على أسباب غاية في السرية كذلك. يعرف الجميع ذلك، ويعرفون أن الحفاظ على السرية هي أول ما يؤهل المنتسبون لعضوية هذه الأجهزة. أما اللجوء إلى الإفشاء والإعلان، فهو ما يجعل للإعلام سعراً لدى الأجهزة.
ما يجب أن يضاف هنا، هو أنه في الظروف الطبيعية يفترض أن يكون المواطن الصالح متشككاً بأداء أجهزته الوطنية السرية وسلامة نيتها، لا مدافعاً عنها. وفي العلاقات الوطنية النزيهة، لا تنتظر الأجهزة الأمنية، نفسها، من المواطنين الصالحين ثقة على بياض، وتتوقع من وطنيتهم أن تدفعهم للشك بها، والتشكيك بنواياها، والدفع إلى مساءلتها، لأن في ذلك حماية لها ولمنتسبيها من ضغوط فشل السياسيين؛ ثم، بالأساس، لأنه لا يجوز مجاملة المؤسسات على حساب الدولة، ولا الدولة على حساب الوطن، ولا الوطن على حساب الشعب، ولا الشعب على حساب الفرد!
وفي وطننا الصغير، لنا تجربة مع السرية و«العلنية» بما يتعلق بالأجهزة السرية؛ أذكر مثلاً مدير المخابرات الشهير مضر بدران، الذي وقف لاحقاً من موقعه رئيساً للوزراء أمام «ممثلي» الشعب، مطلع الثمانينيات، وجزم من دون أن يرف له جفن أن لا معتقلين سياسيين في الأردن، بل هنالك جواسيس في السجن، وأن الشيوعيين عملاء للصهيونية العالمية. بدران ذاته يدلي، مؤخراً، بحديث متسلسل لصحيفة أردنية، ويقول كلاماً كان سيقوم، هو نفسه، باعتقال الناس إن قالوه في عهديه، مديراً للمخابرات ورئيساً للوزراء. وربما أقدم على ذلك فعلاً.
فلنجد له العذر: تغير الزمن، ودالت دولة دولته! لكن ما ليس لعطوفته، ولدولته، عذر فيه هو أنه في ذلك الحديث المتسلسل الطويل، الذي زاد على دزينة من الحلقات المليئة بالأسرار والحيثيات المثيرة، لم يجد في جعبته التي يسندها تاريخ مهني طويل، لا جملة ولا حرفاً يتذكره عن «عمالة الشيوعيين الأردنيين، ولا غيرهم» للصهيونية العالمية، بينما حمل حديثه، تلميحاً، وفي أحيانٍ تصريحاً، إشارات تطعن في نزاهة دول عربية وغربية كان يجاملها، في حينه، من خلال اضطهاده اليساريين الأردنيين.
قناعتي الشخصية الراسخة، التي لا ألزم بها أحداً، هي أن دولته حينما كان رجل أجهزة سرية، لم يكن بالفعل رجل استخبارات، لكنه كان مجرد موظف في منصب استخباراتي. وهو في هذا ليس وحده، هناك صف من المدراء من عهد ما بعد محمد رسول الكيلاني، يشتركون معه بهذا الحال: أكَلهم الاستمتاع بالوظيفة، ولما ضغطت عليهم عزلة التقاعد لجؤوا إلى الثقافة التي أتاحتها لهم الوظيفة ليعيدوا تموضعهم في المجتمع؛ «معارضين»، وأصحاب رأي «مستقل».
وبهذا، يكون المعارضون، بأخلاقهم، واستقلاليتهم، هم أبرز ما أثر في رجال الأجهزة السرية خلال سيرتهم المهنية الطويلة، لدرجة أنهم يحاولون بعد التقاعد تقمص شخصياتهم، وأدوارهم، وعقولهم. غير أنهم للآن بعيدون عن إدراك أهمية التضحيات في هذا كله؛ وهنا، يمكن أن نتذكر، مع ابتسامة، «براعة» عدنان أبو عودة وأحمد عبيدات وجديتهما التامة في أداء الدور الجديد.
من اللافت للانتباه أن زميلهم الوحيد الذي شذ عن القاعدة، وبقي رجل استخبارات، رغم «الخضة» الكبيرة التي طالته وعصفت بمهنته، هو سميح البطيخي. لم يجد رغم الإقالة، والاتهام، والمحاكمة و«السجن»، وتعمد نشر قضيته بالعلن، ما يجعله يتظلم من خلال تقمص شخصيات خصومه التقليديين، وواصل العمل في المجال الاستخباراتي، من بوابة «القطاع الخاص الدولي»، والشركات الطامحة لكسب جزء من سوق «بلاك ووتر».
لابدّ لي، أيضاً، من الإشارة إلى قناعة شخصية راسخة، أخرى، لا ألزم، كذلك، بها أحداً؛ وهي أن السياسة اليوم، في العالم عموماً، باتت تعتمد وبشكل مفرط للغاية على الأجهزة السرية، وتسرف في اللجوء إليها، ومنحها دوراً في تنفيذ السياسات.
وهذا الواقع العالمي، للأسف لا يعني شيئاً سوى أن العالم يعيش في عصر انحدار، ويشهد انهياراً مفجعاً للسياسة، وباتت تستمرئ، ليس فقط، خرق حقوق الإنسان والشرعة الإنسانية، بل وتغرق في الجريمة، وحولت الأجهزة السرية من مؤسسات أمنية إلى منظمات خارجة على القانون، ذات طبيعة أخطبوطية مسيطرة، تشبه الماسونية، أو ما يروى عن الحكومة العالمية الخفية، أو منظمات الجريمة الدولية.
وبعد، لا علاقة للوطنية بالولاء للأجهزة الخدمية بأنواعها، حتى السرية منها، والعسكرية وقت السلم؛ بل إن الوطنية تفرض التشكك بسريتها، كما في خروجها إلى العلن بما يتعلق بشؤون محددة.
وبهذه المناسبة، أتساءل عن الأسباب السرية، التي تقف وراء قرار أجهزتنا الإعلان عن تمكنها من إحباط «مخطط تخريبي إيراني»، رغم أنه يفترض أن هذه ليست المرة الأولى التي يستهدف بها الأردن من قبل إيران وغيرها، وأن العمل الاستخباراتي يفضي كل فترة إلى اكتشاف لحظات ومخططات لا تقل خطورة، لكن لا يكشف عنها أبداً، إلا في صفحات التاريخ!
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.