اعتداد زائف

اعتداد زائف

 

 

أسباب عديدة، موضوعية أو لها علاقة بعللٍ ثقافيةٍ أو اختلالاتٍ اجتماعية تتعلق في التواؤم مع العصر، تدفع بلدان عدّة إلى الاعتداد المبالغ به بمستوى التميز العلمي والثقافي، وكفاءة العمل لدى مواطنيها؛ يمارس ذلك على المستوى الشعبي لدى الإحساس بالغبن بما يتعلق بفرص العمل والمكاسب الاجتماعية المحيطة به. ويمارس من قبل الدول في محاولة لتهدئة هذا الإحساس الذي ينذر بالتحول إلى أزمة.

 

وتتفاقم هذه الظاهرة في دول تعجز عن الموازنة بين ثرواتها الوطنية وإيجاد فرص عمل لمواطنيها، فتُحول هذا الاعتداد إلى سياسة رسمية تقوم على التوطين، وإحلال «الكفاءات المحلية» بدل الوافدة. وغالباً ما تكون مثل هذه السياسة اعتباطية، تحاول أن تعبر عن نجاحها بأرقام ونسب خادعة، لا تعني ما تقوله فعلاً!

 

وفي عالم مثل عالمنا العربي، تهيمن فيه الدولة على كل شيء، بما في ذلك التعليم والثقافة، وتحتكر السياسة قسراً، يتحول الواقع التعليمي والثقافي إلى كانتونات، وبالتالي يصبح التميز في أي مجال نسبياً، وحصصاً متساوية توزع على كل بلد، في الأدب والغناء والهندسة، والطب والإدارة. في تقمص للحالة البروتوكولية التي تقتضيها السياسة، التي تساوي بين وزير خارجية الولايات المتحدة ونظيره الموزمبيقي!

 

المشكلة الفعلية هنا، تتوزع على نواح وجوانب عدّة..

في الجانب الأول؛ يؤدي هذا النوع من التوطين، الذي تصبح فيه المواطنة هي العنصر الحاسم، إلى خلق إحساس زائف بالقدرة، لكنه في حقيقة الأمر يهدد بتدني مستوى كفاءة المجالات التي يجري توطينها، بشكل شامل، ليتناسب مع مستوى مشغليها.

 

في الجانب الثاني؛ يتركز هذا التوطين بالعادة في محالات محددة، وفي مهن ومناصب يمكن أن تغري "المواطنين" المراد تشغيلهم. وهذا في كثير من تجارب التوطين العربية تجري على حساب الكفاءة العربية بالذات.

 

في الجانب الثالث؛ حينما يتم اتباع سياسيات توطين بهذا المستوى، ويكون من نتيجتها المباشرة خفض حضور الكفاءة العربية على نحو حاد، فإن النتيجة الطبيعية لذلك ستكون بتحول المواطنة إلى أقلية ثقافية مكشوفة أمام جيوش من الكفاءات الأجنبية.

 

على المستوى العربي العام، الذي أصبح الواقع الثقافي فيه جزءاً من المشهد الرسمي، فإن هذا يقود في الغالب إلى تغليب ما يبدو أنه نزعات "ثقافية" محلية، وتعميمها عربياً. وهي في حقيقة الأمر ليست سوى ثقافة رسمية، تتخلف عن الواقع والعصر، ولا تستجيب لضرورات التنمية وتحديث المجتمعات.

 

ومع ظروف الاعتداد بالكفاءة الزائفة، التي تعكس أزمةً في مجتمعات ناشئة، فإن النتيجة الطبيعية لذلك هي انزياح حاد باتجاه الأفكار المحافظة وتالياً التطرف. التطرف نفسه الذي يقود إلى التطرف العنيف.

 

وفي الواقع، ليس من الضرورة أن تنشب حروب لكي تتحول الدول إلى كيانات فاشلة. هناك سياسات عديدة تقود إلى ذلك، لذا فإن من الخطير هنا أن تكون سياسات مثل "التوطين"، التي تحظى بشعبية في كل الدول العربية، الغنية والفقيرة، بوابة دخول مباشرة إلى عوالم التطرف والتزمت الاجتماعي والديني. بل أن سياسات مكافحة التطرف في العالم العربي، نفسها، لا تقل خطراً عن ذلك، وتمثل طريقاً معبدة نحو التطرف والتطرف العنيف.

 

ويبدو أننا لا نفعل شيئاً هنا، إلا انتظار أن يقتلنا هذا الاعتداد الزائف بكفائتنا!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك