استدراك ضروري

استدراك ضروري

اقتصاديون من مختلف دول العالم، بعضهم كان يحتلّ موقع المسؤولية السياسية والاقتصادية الأولى في بلاده، وجدوا أنفسهم منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي في مواجهة شرسة مع البنك وصندوق النقد الدوليين، ووجدوا أنفسهم يرفضون سياسات المؤسستين وطلباتها من بلادهم؛ وأطلقوا التحذيرات بأن ما "تقترحه" المؤسستان على الدول التي تطلب مساعدتهما وتلجأ إلى قروضهما ليس مجرد اقتراحات، ولكنه خضوع كامل لحقهما في إدارة اقتصاد الدول المعنية.

ملاحظة ثانية رددها هؤلاء، ومنهم كثيرون من آسيا وأفريقيا وبعض الخبراء من بلدان أوروبا الغربية، أن اقتراحات المؤسستين الماليتين لا تنتمي إلى رأسمالية معهودة يعرفونها، ولكنها صكوك استسلام تام مدفوعة بنشوة "الانتصار" بالحرب الباردة.

وملاحظة ثالثة كانوا يسوقونها في ذلك الوقت، الذي كان فيه الحديث عن العولمة عالي النبرة، أن اقتراحات المؤسستين "الاقتصادية" ليست فقط وصفة لتحطيم الدولة وتحويلها إلى مجلس عائلات لـ "مافيا بزنس جشع" تحكمه أخلاق العصابات، ولكنه كذلك وصفة لتفسخ المجتمع وانهياره القيمي التام.

ورأوا أن في هذه "المقترحات"، وطريقة فرضها، عنف غير مشروع وإرهاب رسمي مفتوح.

في وقت لاحق جاءت مجموعة أميركية تنسجم مع عَرَض "نشوة الانتصار" إلى الحكم في الولايات المتحدة، وأسمت كل هذا بـ"الفوضى الخلاقة"، ونظّرت لها، واعتمدتها كبرنامج سياسي له شقه الاقتصادي العنيف.

بعد عام الحادي عشر من سبتمبر، حينما ضرب الإرهاب في الولايات المتحدة، بدأنا نسمع من مجالس خبراء البنك وصندوق النقد الدوليين اعترافات أن كثيراً من مقترحاتهم للأعوام السابقة كانت مدمّرة. ثم بعد سقوط بغداد ونشوء استنزاف مقاوم غير مسيطر عليه، لا من المحتلين ولا من المقاومين، تكررت هذه الاعترافات..

وبالمقابل، كان أؤلئك الذين منذ البداية حذّروا، من مواقع في النظام الرأسمالي، من أن انتهاء الحرب الباردة لا يعني بحال من الأحوال أن العالم برمته تحول إلى "غنيمة حرب"، وأن السياسيات التي يجري فرضها على دول العالم هي محض عنف غير مشروع وإرهاب رسمي مفتوح، حققوا برفضهم لهذه السياسات الإزدهار لبلدانهم، وانتشلوها من دون معونة المركز الرأسمالي من حضيض مرعب، بينما أولئك الذين لم يكونوا في مواقع المسؤولية من هؤلاء، شاهدوا بأم أعينهم أن ما يمتلكونه من كفاءة أعفاهم من أن يكونوا أنبياء ليعرفوا ما سيؤول له الحال..

الحال هنا، في المنطقة العربية التي تشغل العالم، التي تحولت إلى مرجل يغلي بالإرهاب.

وهذا الإرهاب، بكل مسمياته، هو وليد دولي. إحدى الأعراض "الطبيعية" لسياسيات وفروض البنك وصندوق النقد الدوليين. وعلاقته الأساسية في المنطقة هو العبث الدولي فيها في ظل عدم وجود إرادة عربية مستقلة لمواجهة تلك السياسات. أو بالأحرى، لأن عناصر القوة العربية تذهب نحو تدعيم تلك لسياسات نفسها.

طبعاً، هناك دول عربية كثيرة، وأخرى غير عربية، كانت إما ضعيفة غير قادرة على أن تكون مستقلة في قرارها، أو قادها عجزها إلى الحلم بحل مشاكلها عبر القروض، أو دفعها طمعها بالحصول على "مساعدات" إلى مواكبة هذه السياسات المدمرة. ولكن هذه الدول تواجه اليوم اشكالية أن المركز الرأسمالي لا يستطيع تنظيف آلياته من الاعتماد على الارهاب. وأسوأ من ذلك، أنه يكتشف اليوم أن عنف الإرهاب الذي بدأ كمغامرة دولية انتهى بالتحول إلى مأساة محلية.

والمشكلة، أن ظواهر العنف الكبيرة لا تنتهي ولا تتلاشى فجأة، ولكنها تتقزم من حالتها الدولية إلى عنف سياسي محلي منفرد يضرب دولاً مستقرة. والأخطر أنه ينعكس لاحقاً في عنف اجتماعي، وحتى أسري. وهذا العنف في حالته المتقزمة واسع النطاق ومؤذ ويأتي على أية مكاسب يمكن أن تكون تحققت من المساهمة في صناعته.

وأخيراً هذا استدراك هام وضروري، على كل ما سلَف مني حول "داعش"، لأن هناك عوامل أقوى من ثقافتنا، فإدارتها أساساً ليست بأيدينا!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك