إنْ لم تكن شريراً..

إنْ لم تكن شريراً..
الرابط المختصر

 

 

 

 

إذا كان ثمة سِمَةٍ تتشكّل الحياة وفقاً لآليات عملها، وترتسم عبرها مصائر أعداد هائلة من البَشَر؛ فإنّ وحشية الشّر تبرز عنواناً يؤشر على كافة العصور. الشّر كثابت كامن في تكويننا، لا يحتاج لكثير من التحفيزات ليبسط عنفه عاصفاً بحيوات الملايين. كأنّ الجانب المظلم في أرواحنا يطغى على الجانب المنير، وما الحروب سوى مسرح التاريخ لأدوار الموت نمارسها، وبحجج لا تنفد، مستلين من خيالنا المريض صنوفاً من القسوة والبشاعة والدناءة توفرها أغطية "الحروب الوطنية" وأشباهها! فتحت رايات تلك الحروب وشعاراتها، نستنهض من أعماقنا الكراهية حتى أقصاها. ولنا، بعد هذا، أن نتخيّل كم الكائن الإنساني ما يزال بعيداً عن إنسانيته.

 

عند ترجمتنا للشّر المحض تتساوى المعرفة مع الجهل، ولا نجد فرقاً إلّا في التبرير والحُجَّة، ويبقى القتل وإلغاء أغيارنا غايةً ووسيلة في الوقت نفسه. هذا ما نتابع مجرياته كلّما انتقلنا من فصل إلى آخر من الفصول العشرين في رواية "الطائر المصبوغ"، وكلّ فصل بوابة جديدة من بوابات الجحيم الأرضيّ نُطِلُّ منها على بانوراما الإفناء والإبادة.

 

رواية أكثر من صادمة كتبها ييجي كوشينسكي، بولوني الأصل أميركي الجنسية، رسم فيها تجربة طفل في السابعة يجول في ريفٍ أوروبيّ متخلّف إبان الحرب العالمية الثانية، تحت شروط الاحتلال النازي. ريف يؤمن بالخرافة، فقير، جاهل، كاره لغير الإنسان الأشقر (اليهودي والغجري على الخصوص) ليتماهى بذلك مع المحتلّ ويتحد به، فينشر الكراهية والقسوة والإقصاء. حتّى الحيوان غير قابل لسواه؛ فالطائر الذي صبغه الصيّاد بألوان قوس قزح وأطلقه في سرب أقرانه لينضم إليه، سرعان ما تناوشته طيور السرب وقتلته، إذ رأت في ألوانه اختلافاً وفي وجوده تطفلاً من غريب غير مرغوب فيه، فاستحق العِقاب!

 

لا يعثر قارئ الرواية على حدود تقف عندها جبلة الكراهية، والتخلّف، والجهل، والتعصّب، والقسوة. لا حدود للشرور التي، كما صوّرها كوشينسكي بوعي عال وتفصيلات دقيقة وكتابة جاذبة، تحول دون تحوّلها إلى وباءٍ مُعْدٍ يصيب حتّى الأطفال. كأنما هُم أيضاً وقعوا على سِرّ الحياة الخَبيء: إنْ لم تكن شريراً أكلتك الشرور! وبذلك، تتحوّل الحياة برمتها إلى مجرد تفاصيل لجوهر واحد قِوامه الوحشيّة!

 

الإنسانُ وحشٌ يتزيّف بلبوسات "المبادئ والمُثُل"، ينتظر مَن يُطلقه من عقاله، وليس مثل الحروب والأوطان والأديان (بالمفاهيم الخالية من ثقافة مستنيرة) قوة ومبرراً ومساحةً يعبّر فيها، وباسمها، عن تلك الوحشيّة.

 

لعلّ هذا ما شكّلَ محوراً رئيساً في رواية "الطائر المصبوغ"، حيث يمكن لنا وضعها إلى جوار رواية "الساعة الخامسة والعشرون" للروماني كونستانتان جيورجيو، الذي يتراءى لنا أنه أكثر الكتّاب الذين صوّروا بشاعة الإنسان المتمثلة في الحروب. أجَل؛ الحروب بشعة في ذاتها، غير أنّ الإنسان نفسه هو مَن يمنحها، من ذاته المظلمة، بشاعتها الأقصى. إنّ ييجي كوشينسكي البولوني ليس سوى الأوروبي الشرقي الآخر، المتابع لمسيرة الخراب الروحي الممتد فوق الكون الإنساني في رواية، كالتي سبقتها، لا تُنسى.

 

نالت "الطائر المصبوغ" جائزة أفضل رواية أجنبية في فرنسا عام 1970، كما حظي كاتبها بجائزة الأدب من "المعهد القومي للفنون والآداب" في الولايات المتحدة، و"الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب". ولقد امتدح كثير من الكتّاب العمق الإنساني والفكري في هذه الرواية، كآرثر ميلر، وريتشارد كلغر، وجون ياردلي الذي رأى "لا توجد بين جميع الروايات التي انبثقت عن الحرب العالمية الثانية رواية تفوق الطائر المصبوغ. رواية تعالج لا الأسباب السياسية للحرب، بل التربة الاجتماعية والثقافية الخصبة لنشوء الحروب." كما جعلتها أناييس نن، في كتابها "رواية المستقبل"، مثالاً على الرواية الطليعية.

 

ولد ييجي كوشينسكي عام 1933.

له من الروايات: "الوجود هناك"- حولت إلى فيلم سينمائي عام 1971، و"خطوات" – جائزة الكتاب القومي، كما نال عام 1981 جائزة الأكاديمية البريطانية للفنون السينمائية والتلفزيونية.

توفي منتحراً عام 1991، حيث كتب في كلمة وداعه:

"إنني ذاهب لأخلد إلى النوم مدةً أطول قليلاً من المألوف، سَمّوها الأبدية."

 

 

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.