إنتاج التطرف  

إنتاج التطرف  

 

من البديهي أن التطرف يشكل شرطاً أولياً للإرهاب. وهذا يذكرنا أن مقولات النظام العالمي الجديد في بداية التسعينات الماضية، التي ألحت على ثلاث أفكار رئيسية، بوصفها تمثل وتجسد «الانتصار النهائي للرأسمالية»، ليست مقطوعة الصلة بحقيقة أن العالم اتجه على نحو حادٍ نحو التطرف بأسوأ أشكاله، ممثلاً بإنتاج نسخة ظلامية من الإسلام، والإرهاب التي لا حاجة لسوق أمثلة عليها..

 

مطلع التسعينات، كنا أمام مقولة «نهاية التاريخ». ونهاية التاريخ، التي جاءت بمثابة إعلان ولاية مركز رأسمالي مأزوم على العالم، لم تكن إلا إعلان حرب يقفز عن محاربة الدول والجيوش إلى التعدي على المجتمعات والثقافات الأخرى مباشرة، ومصادرة إرادتها، وتحطيم السيادات الوطنية التقليدية. وهو ما يستدعي بالضرورة ردة فعل معاكسة في اتجاهها، مساوية في عنفها.

 

لم تبد هذه مقولة «نهاية التاريخ»، التي تم تقديمها على أنها نظرية شاملة، كافية لحفز وتنشيط التناقضات القاتلة، فدعمتها مقولة «صراع الحضارات»، التي جانبت العلم في واحدة من أهم بديهياته، القاضية بأن العالم لا يعيش في زمن واحد أكثر من حضارة. بل يعيش حضارة واحدة، تتنوع وتتعدد داخلها الثقافات. وهذا القفز عن البديهيات العلمية كان يعكس محاولات «المنتصرين» أواخر القرن العشرين، لإيجاد تكييف للوضع الغريب، الذي وجدت الرأسمالية نفسها فيه؛ فهي من جهة «منتصرة»، لكنها من الجهة اللصيقة الثانية مأزومة.

 

ذلك ما قاد إلى محاولة التخلص من حوامل الأزمة، بنبذها، واعتبارها أطرافاً خارجية طارئة. وبالتالي، لم تعد الحضارة، التي توحد المركز بأطرافه في معسكر واحد، مطلوبة، بل الثقافة التي تجعلهما طرفين متفرقين؛ فتم تقزيم الحضارة، من خلال إعادة تعريفها لتعني الثقافة الخاصة، تأسيساً للقول بـ«صراع الحضارات».

 

من هنا، فإن «صراع الحضارات»، مع مقولة الحاجة إلى عدو، وضعت ما يسمى «الحضارة الغربية» بمواجهة ما يسمى «الحضارة الإسلامية»، ليتجسد ذلك بالتحول من التحالف مع مقاتلي أفغانستان، والأفغان العرب إلى استعدائهم.

 

بالتوازي مع ذلك كله، كانت هناك مقولة «نهاية الأيديولوجيا»، التي لم تعن شيئاً سوى فك ارتباط الأيديولوجيا بالواقع الاجتماعي، وربطها بالوظائف العنفية التي تنظرها أجهزة الأمن السرية؛ وكما تم الدفع بمجموعات وتيارات ثورية في أميركا اللاتينية للتورط في عالم تجارة المخدرات، والتحول إلى مافيات. تم تكييف الجماعات الدينية في المنطقة للعمل بوصفها مليشيات مرتزقة منفلتة، تمتلك نسخة دينية ظلامية قادرة على التحشيد والاستقطاب في عالم يحكمه الاستعداء الثقافي.

 

ويمكن للمرء أن يلاحظ هنا، أن المجموعات المسلحة التي نعايشها الآن في المنطقة تختلف عن كل القوى التي سبقتها إلى التسلح بالأيديولوجيا الدينية، لا تربط إيمانها بالمقدسات، ولا تؤطر دولتها بحدود جغرافية، لكن بفكرة أيدولوجية. وبالتالي، ليست الأرض، ولا الأمة، ولا القبلات الدينية، هي المهمة، إنما الفكرة الدينية نفسها!

 

ولا بد هنا، من تذكر أن العنف والجريمة والتجارات غير المشروعة كانت وظيفة حصرية للشركات الاستعمارية الشهيرة. بينما في العصر الحديث، فإن أربعة من أهم المصارف القائدة في العالم، وهي عصب العالم العالم المصرفي، ومنها واحد ارتبط بمواكبة الأنشطة الاستعمارية، تواجه لليوم اتهامات كبرى في المحاكم بأنشطة غير مشروعة على رأسها غسيل الأموال والتورط مع كارتيلات المخدرات العالمية.

 

وفي الواقع هذه تهم مخففة، فالوقائع تؤكد بحسب الخبراء ضلوعها المباشر في تنظيم وإدارة العالم الأسود الذي يضم التجارات غير المشروعة من غسيل أموال وتجارة مخدرات بشر وتجارة أسلحة خارج إطار القوانين الدولية وتنظيم اضطرابات سياسية وأمنية من خلال رعاية مجموعات سياسية وتوفير تسهيلات لمجموعات عنفية وإجرامية أو من خلال الشركات الأمنية الخاصة أو الأجهزة الرسمية، وتعزيز هيمنة كونية خطرة من خلال استخدام النظام المصرفي العالمي، واستقطاب المصارف الطرفية لتؤدي أدواراً محلية مماثلة.

 

إن رفض محاولات تبرير الإرهاب ضروري. وهذا لا يعني التنازل عن محاولة فهم الإرهاب وإعادة انتاج التطرف، وربطهما برعاتهما الحقيقيين، فالأمر لا يتعلق حصراً بتحالف السياسة مع الدين، لكن قبل ذلك بهيمنة أجهزة الأمن السرية على الدولة، وتهميش مؤسساتها المدنية الشرعية، ووضعها في خدمة عالم المصارف السري المظلم. ولهذا، فإن كثيراً من النشطاء المدنيين في الغرب يولون أهمية خاصة لخوض نضال ضد عالم المصارف والمال!

 

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك