إعلام المستقبل المظلم
لا يتفاجأ المرء بينما يحضر أهم ملتقى عربي أن تتوه الجلسات عن موضوعها، وينسى المشاركون موضوع الحديث، وأنهم غرقوا في حديث لا علاقة له بموضوعهم؛ فالإعلام والإعلاميون العرب لا يعتبرون أنفسهم قطاعاً مستقلاً، بل حاشية ملحقة بالسياسة والسياسيين.
لذا، لم يكن غريباً أن ذلك المنتدى، الذي يفتخر بأنه يعد برنامج دورته التالية فور انتهاء دورته السارية، أدخل في الربع الساعة الأخير إلى جدول جلساته الرئيسة جلسة تتناول "عاصفة الحزم"؛ فالسياسة أقوى من أي اعتبارات، والمهنية يتيمة تجول في الحارات تشحذ قوت يومها.
ومن اللافت أن التعريف الخاص بهذه الجلسة وموضوعها في "بروشور" اللقاء، الذي يقول إنها تقدم "قراءة للدور الذي لعبه ويلعبه الإعلام في المرحلة الحاسمة التي تمر بها المنطقة، وشهدت الإعلان عن عملية "عاصفة الحزم".
والأمية المهنية تتبعها أمية عقلية، وسذاجة هائلة: "تأتي جلسة "عاصفة الحزم"، للكشف عن مدى الجاهزية التي يجب أن يكون عليها الإعلام العربي في مواكبته لأحداث المنطقة، وتحديداً بعد أن أدخلت تلك العملية العسكرية المراهنين على "العجز العربي" بما يمكن تسميته "صدمة الحسابات الخاطئة"، وما حملته في طياتها من مؤشرات لصحوة عربية يمكن أن تؤسس لنظام "أمن جماعي" يصون الوجود العربي، ويضع حداً لاستباحة دول عربية من قِبَل قوى إقليمية ودولية، ويكفل للشعوب العربية حقوقها في العيش بأمان".
من الواضح هنا أننا أمام واحدة من حالات الانفصال عن الواقع. وتخيلوا أن الذي ينفصل عن الواقع هنا ليس ديكتاتوراً ما، بل هيئة تتوخى قيادة الإعلام العربي برمته!
وعموماً، رغم أن الجلسة شُتّت عن موضوعها، وتركت الاعلام جانباً، وناقشت عاصفة الحزم من باب مديح "الإعلاميين المعهود للسياسة، إلا أنها قالت الكثير حول الإعلام من دون أن تنطق بكلمة حوله. وكانت من غير قصد واحدة من أكثر الجلسات صلة بالتفكير "العربي "المعاصر". وأهم ما قالت هذه الجلسة، بواقعية:
- - أن الثقل الثقافي العربي، والعسكري كذلك، انتقل من العواصم العربية التقليدية إلى منطقة الخليج.
- - وهذه الفكرة، بطبيعة الحال، لا تتوقف عند انتقال الثقل الثقافي والعسكري من منطقة إلى منطقة وحسب، بل تستتبع حكماً الحديث عن عواصم بديلة بدأت تملأ الفراغ الذي تركته عواصم أخرى انشغلت بذاتها، وتركت وراءها دوراً ينتظر من يقوم به.
- - الفكرة بالدرجة نفسها، وبحكم الحديث عن الانتقال من مكان بمحدداته الخاصة، إلى آخر بشخصيته المعينة، يستتبع حديثاً عن تحول في مفهوم الثقافة والقوة على حد سواء. ويمكننا كذلك أن نتوقع أن التحول سيطال كذلك طبيعة الدور نفسه ومفهوم القيادة.
- - الأمر الذي لا يستوجب فقط التأكيد على وطأة الواقع والتحولات التي تعيشها العواصم التقليدية، وأيضاً عن طبيعة التحولات التي تفرضها ضرورات الاستجابة لمقتضيات التحول إلى مراكز بديلة.
ويمكننا هنا أن نسوق هذه الفكرة في الواقع الإعلامي، فنتحدث عن تحول في هوية وثقافة ومركز الإعلام وانتقالها من العواصم التقليدية إلى عواصم بديلة. وعلينا أن نلتفت إلى أن الإعلام كان أسبق في تحولاته، رغم أنها بقيت هادئة لا تثير الانتباه، ورغم أن تحولاته شكلت مقدمات ضرورية للتحولات التي طالت الثقل الثقافي والعسكري.
وقد تبدو الحالة الإعلامية المصرية، التي تحافظ على ثباتها في مركزها، استثناء يفند هذه الفكرة، غير أن الإعلام المصري يبقى حالة خاصة، فهو وإن كان آلة هائلة وجبارة، إلا أنه مكتف بجمهوره، منشغل بدوره المحلي، ولا يطرح نفسه في المنافسة على أداء دور يمتد على المساحات العربية، التي يتعامل معها أكثر بأدوات فنية، تبدأ الإنتاج الدرامي التلفزيوني ولا تنتهي بالأغنية.
من المهم الإشارة إلى أن في صلب تحولات الاعلام العربي تتجلى ظاهرة تسرب الكفاءات من وسائل إعلام المشرق العربي، إلى مناطق جديدة وعدم قدرة المؤسسات الإعلامية في العراق وبلاد الشام الاحتفاظ بكوادرها، والأمر يتعدى ويتجاوز فشل تلك المؤسسات في إدارة مواردها البشرية، ويأتي بحكْم ظروف أشمل تتمثل في الفكرة نفسها التي تداولها المشاركون حول انتقال الثقل الثقافي والعسكري إلى مناطق جديدة، وهو ما ينطبق ابتداءً على الإعلام.
وبالعودة إلى الملتقى الاعلامي العربي الأهم، هناك عقل متنفذ يرى أن "عاصفة الحزم" ((كشفت الغمة، وألهمت الأمة، ورفعت العتمة))، وأن النموذج الإعلامي الخليجي هو النموذج الأساس. وحين نشير إلى العقل المتنفذ فنحن نتحدث عن تيار بعينه يكتسح الخليج اليوم، ويعتد بالمكاسب التاريخية التي أهدتها له الشطحة الحوثية في اليمن، ومرتاح للفرصة التي أهديت له هناك، ولا يرى مخاسر في "عاصفة الحزم".
وهذا التيار له حساباته، وينظّر لعاصفة الحزم باعتداد، لا ينطق عن عمى وغرور، لكنه يعبر عن واقع سار على النحو الآتي: بما أن كل محاولات قيادة الوطن العربي السابقة: "الثورية" و"القومية" و"البعثية" انتهت إلى هذه الكارثة (باعتبار أن لا علاقة لعواصم القرار الجديدة بكارثة اليوم!)، وبما أنه يتحتم علينا أن نقوم بواجب قيادة العرب، فإن من حقنا أن نقوده بطريقتنا الخاصة، وبأسلوبنا ووفق رؤيتنا، ولا حق لأحد أن يلفظ بكلمة!
لذا، فنحن الفاشلون في العواصم التقليدية إما أن نتعلم الصمت، أو فلنقطع ألسنتنا: وهذا أسهل وأسرع!
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.