إعادة كتابة تاريخ البشرية من وادي فينان
بالهدوء والدقة والصبر المعهود عن علماء الآثار، يتم حاليا الكشف التدريجي عن موقع اثري استثنائي قد يؤدي إلى إعادة كتابة تاريخ البشرية من جديد في حال تم إثبات الملاحظات والنتائج الأولية الناتجة عنه. هذا الموقع الفريد يمثل دليلا على تجمع بشري وساحة للنشاطات العامة (دينية أو اجتماعية) عمره 11600 سنة، اي ما قبل عصر الزراعة بحوالي 4 آلاف سنة، وفي حال ثبت التاريخ فإن ذلك سيقلب معرفتنا عن الحضارات القديمة رأسا على عقب. المهم في هذا الموضوع بالنسبة لنا كأردنيين هو أن الموقع موجود في وادي فينان في جنوب الأردن وقد يصبح واحدا من أهم المواقع الأثرية في التاريخ وكنزا سياحيا من الدرجة الأولى.
حسب الرواية المتعارف عليها عالميا لتاريخ الحضارة البشرية فإن أول التجمعات البشرية ظهرت في بلاد الرافدين ما قبل حوالي 6-8 آلاف عام وكانت معتمدة على الزراعة. النظرية تقول إذا بأن الزراعة وتدجين الحيوانات والسيطرة على إنتاج الحبوب هي التي أدت إلى نشوء الحضارات والتجمعات البشرية المستقرة بعد آلاف السنين من ممارسات الصيد والجمع والتجمعات الصغيرة أو الفردية.
الاكتشافات الحديثة في تركيا وسوريا وفلسطين والأردن (منذ 10 سنوات) تؤدي إلى تغيير هذه الصورة تماما حيث تم الكشف عن معابد في تركيا وفلسطين وتجمعات مستقرة في سوريا ما قبل عصر الزراعة، ولكن الاكتشاف الجديد في وادي فينان هو الأهم لأنه يمثل اقدم تجمع بشري تم الكشف عنه في العالم.
النظرية الجديدة التي بدأت تتبلور بين علماء الآثار حول تطور الحضارة في تاريخ البشرية مفادها أن البشر بدأوا بإدراك الحاجة إلى النشاطات الجماعية والمشتركة وتبادل الأفكار في مواقع محددة ومخصصة وهذا ما يسمكن أن نسميه “الثقافة” حسب التعريف الحديث.
الثقافة والدين والمعتقدات الجماعية التي تطورت في ذلك الوقت كمحاولات للإجابة على الأسئلة المستمرة التي واجهها الإنسان حول العالم المحيط به ومصيره المستقبلي دفعت الناس إلى التجمع. هذا التجمع الثقافي-الديني هو الذي أدى إلى ظهور الزراعة ربما نتيجة الحاجة إلى توفير مصادر طعام مستدامة ومنظمة لهذه التجمعات الحديثة. وبهذا فإن الثقافة هي التي أدت إلى ظهور الزراعة وبدورها ساهمت في تطور المجتمعات والحضارات البشرية.
الإجابة على هذا اللغز الكبير في تاريخ الحضارة البشرية قد تكون موجودة في وادي فينان، ولكن يبقى هنالك لغز أصعب وأكثر تعقيدا وهو لماذا تستمر الحكومات الأردنية المختلفة في تجاهل قطاع السياحة الذي يمثل كنزا ثقافيا وحضاريا وماليا للأردن يمكن استثماره لتحقيق تميز حقيقي على مستوى العالم.
لا يزال قطاع السياحة في الأردن على هامش التنمية والتطوير والاقتصاد في هذا البلد بالرغم من الكنوز السياحية والتراثية، ومنها موقع استثنائي قد يكتب تاريخا جديدا لكل الحضارة البشرية، وربما تبدأ كتب التاريخ والآثار في السنوات القادمة بجملة “ظهرت أولى الدلائل على الحضارة البشرية في الأردن قبل حوالي 12 ألف سنة”!!
الدستور