إدارة أزمة الخطاب الحكومي

إدارة أزمة الخطاب الحكومي
الرابط المختصر

في عهود غابرة من عمر الدولة، كان الخطاب الإعلامي الرسمي الأردني يصنع في مطبخ سياسي هادئ للغاية، بعيداً عن الانفعالات غير محسوبة العواقب، وفي منأى عن الفردية التي تحمل عادة نتائج وخيمة، خاصة إذا ما صدرت عن شخصية يسهل اقتيادها إلى مطبات قاتلة تقود الدولة إلى أجواء من الاحتقان بين الحكومة والشعب لا يمكن البت في درجة خطورتها على المدى البعيد.
والمعروف أن السياسي لديه الخبرة الكافية ليعالج عثرات ورثها من سلفه، كما هو الطيار الماهر حين يجنب المسافرين معه ازعاج المطبات الهوائية بقدرته العالية على القيادة والتحكم بالأجواء المحيطة بطائرته.
والسياسي المتمرس لا يمكن أن يحرك شخصية الجنرال في تعاطيه مع أمور الشعب والدولة بصورة عامة، ويبتعد إلى حد كبير عن شخصية القيادي المخطط والمنفذ في آن معاً. هنا يتوقف صوتك الواحد وتبدأ بسماع أصوات الآخرين، وتهيئ نفسك لمزيد من الهدوء، والصبر، وقلة الانفعال، ليس لأنك هكذا، بل لأن الدولة تطلب منك أن تظهر أكثر هدوءاً وحكمة.
أمس كنت أقرأ تصريحات رئيس الوزراء، د.معروف البخيت، حول رجل الأعمال خالد شاهين، وعدم معرفة الحكومة بدقة مكان وجوده، رغم أنه محكوم في قضية فساد كبرى يطالب الشعب بسرعة اقتياد أطرافها إلى السجن، وعدم التساهل معهم. الغريب في الأمر أن تصريحات البخيت جاءت في وقت نتحدث فيه عن توجيهات ملكية تطلب من كافة أركان الدولة سرعة محاربة الفاسدين، بينما التصريح الأخير المتعلق بخالد شاهين لا يبعث في الشارع ارتياحاً تجاه مصير "الفاسد" بعد أن يتم إعلان اتهامه أمام الجميع، وبدعاية إعلامية كبرى يصفق لها الجميع.
هذه التصريحات التي بدت لي، كما بدت لكثيرين من المراقبين، متسرعة وفي غير أوانها، نموذج على تضارب الأخبار والنوايا بشأن تهدئة الشارع، وبث الرسائل السليمة والدقيقة المتعلقة بالوضع السياسي والاجتماعي الحالي الذي لا ينفصل عن حال الأزمة القابلة للتفجر في أي لحظة، وهي تصريحات قد تستغل على منابر عديدة للمطالبين بالإصلاحات، ويرغبون بعناوين جديدة لهذا الإصلاح، وها هي الحكومة تقدم لهم عنواناً عريضاً يمكن توسعته، والانتباه إلى أهمية إخراج عناوين فرعية منه تُعنى بمصير المسؤولين ورجال الأعمال المحكومين بقضايا الفساد، وهل سيتم حقيقة زجهم في السجون كعامة الشعب!
المسألة لا تتوقف عند تصريح واحد، فثمة تصريحات غريبة تخرج على ألسنة مسؤولين في الحكومة الحالية تضع الخطاب الرسمي الأردني خارج إطاره الملائم في هذه الأوقات، فوزير العدل له اجتهاداته، ووزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال، الناطق الرسمي باسم الحكومة، له اجتهادات يغلب فيها الطابع الشخصي على المنصب السياسي، وهي بالتأكيد تعود إلى طبيعة الرجل الذي نحترم فيه خبرته الإعلامية والأدبية، لكنها تؤشر أحيانا إلى أن الاتفاق على خطاب إعلامي يخرج باسم الحكومة بات أمراً صعباً للغاية.
ما يربك في تضارب التصريحات بين أركان الحكومة، وعدم وجود خطاب إعلامي ثابت المعالم للمرحلة، والانفعال الظاهر في التصريحات الحكومية، هو اقتياد الإعلام الرسمي إلى مزيد من التخبط وعدم التنسيق ليخرج معبراً عن روح الدولة، وناطقاً بخطابها الخاص بالمرحلة.
كان الحلم أن نصل إلى إعلام قادر على تفهم الأزمة وإدارتها بالطرق السليمة، مدعوماً بخطاب رسمي واضح المعالم، لكن في ظل ما نراه اليوم من عدم وجود خطاب أزمة حقيقي ومسؤول للحكومة، لا يمكن الجزم بأن الطريق سالكة لبناء استراتيجية إعلامية للدولة تحاكي معطيات الأزمة التي تمر بها البلاد للخروج بمفردات قوية تقنع الشعب بالتغيير والإصلاح.

الغد