تشهد محافظة حلب تطورات عسكرية متسارعة منذ أيام، فمنذ إعلان قوات المعارضة السورية عن عملية “ردع العدوان”، والسيطرة على مساحات واسعة في ريف حلب الغربي وأجزاء من أحياء المدينة، والانسحاب السريع لقوات النظام السوري من هذه المناطق، فيمكن اعتبار هذه العملية نقطة تحول مهمة في سياق المشهد السوري، آخذين بعين الاعتبار مدى وحجم العملية العسكرية، والتي تعتبر أكبر تحرك عسكري منذ مارس/آذار 2020 في شمال سوريا. وبالتالي، فإن التطورات الحالية تطرح تساؤلات أكثر من كونه يُقدم إجابات، ونظرًا لتداخل عدد الأطراف المحلية، وتباين مصالحها وأهدافها في سوريا، فإن جملة من الإضاءات قد توضح جوانب من مشهد التصعيد الحالي في الشمال السوري.
العملية العسكرية.. الخلفية والسياق
انطلقت العملية العسكرية “ردع العدوان” في سياق إقليمي يشهد جملة من التطورات، فمن جهة، يعكس اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بشروطه الصعبة على حزب الله جانبًا من الصورة الأكبر لتراجع إيران ومعها حزب الله في سوريا، ومن جهة أخرى، فإن استمرار تعثر المفاوضات التركية مع النظام السوري، وتصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، عن تأثير إيران في عدم إتمام المفاوضات؛ تعتبر أيضًا من العوامل الرئيسية التي قد تُفسر توقيت هذه العملية. فمع تشتت حلفاء النظام السوري بقضاياهم الذاتية كروسيا في أوكرانيا والتصعيد المصاحب لاستخدام الصواريخ بعيدة المدى لأول مرة منذ بدء الحرب الأوكرانية في فبراير/شباط 2022. والتراجع الملحوظ في الدور الإيراني في سوريا كما تقدم، وجملة الترتيبات الإقليمية قُبيل تولي ترامب للإدارة الأميركية في يناير/كانون الثاني العام القادم؛ بذلك، فإن الفرصة سنحت للمعارضة السورية للتحرك عسكريًا للاستفادة من هذا الظرف الإقليمي الحالي.
وعلى الرغم من وجود اختلافات واضحة ومهمة بين مجموعات ومكونات المعارضة السورية في شمال غرب سوريا، سواء سياسيًا وعسكريًا؛ إلا أن الإعلان عن توحد أبرز وأهم الفصائل في غرفة عمليات عسكرية منظمة ومشتركة تُعرف بـ (غرفة عمليات الفتح المبين) يلفت الأنظار نحو عدد من القضايا الرئيسية:
أولًا، تصور وجود غطاء سياسي تركي للعملية العسكرية: إن افتراض تَشكُل تفاهمات تركية – روسية جديدة تبعًا للجولة الأخيرة من مؤتمر أستانة 22 منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الجاري؛ قد يُفسر غياب الغطاء الجوي الروسي المعهود في سوريا أمام توسع العمليات العسكرية في حلب، لا سيما أن هذا المؤتمر يعتبر المنصة الأهم للتفاهم المباشر بين الأطراف الثلاث (روسيا وإيران وتركيا)، ومع إدراك روسيا وتركيا بتراجع الدور الإيراني؛ فربما كان الطرفان قد توصلا إلى تفاهمات قد تُفصح عنها المرحلة المقبلة.
ثانيًا، تجمع فصائل المعارضة: تعتبر العملية إعادة توجيه لقوى المعارضة نحو النظام السوري وحلفائه، خاصة في سياق الاشتباكات البينية لبعض قوى المعارضة مؤخرًا منذ شهور، إذ إن وجود عملية عسكرية من هذا النوع مع تحقيق انتصارات تكتيكية أمام النظام السوري؛ يعيد الانسجام بين مكونات المعارضة السورية من جديد.
ثالثًا، يعكس الجانب العملياتي؛ الجاهزية القتالية والخطط المُحكمة لعملية “ردع العدوان”، لاسيما مع الحديث عن سيطرة المعارضة السورية على كامل ريف حلب الغربي تقريبًا، والتوجه منه لتطويق ودخول بعض الأحياء في مدينة حلب، بالإضافة لقطع الطريق السريع M5 الذي يعتبر شريان لوجستي رئيسي بين المدينة ودمشق، وهو ما يعكس جانب تنظيمي وتنسيقي مرتفع لهذه القوى.
وبالمحصلة، تشير التقديرات المستندة إلى بيانات غرفة عمليات (الفتح المبين) إلى سيطرة المعارضة على ما نسبته: (625.8 كم2 من ريف حلب الغربي، و206.5 كم2 من ريف إدلب الشرقي، و18 كم2 من أحياء مدينة حلب الغربية)، وهي مساحات كبيرة مقارنة بمدة العمليات وهي نحو 72 ساعة فقط.
معركة محدودة أم حرب مفتوحة؟
يبقى السؤال الأهم حول نطاق هذه العملية العسكرية، وهل من فرص لانتقالها من كونها عملية عسكرية في حلب ومحيطها إلى حرب مفتوحة في سوريا؟ بشكل عام فمن المبكر الحديث عن مستقبل هذه العملية وهي في طور التشكل، إلا أن مجموعة من المتغيرات ستلعب دورًا بارزًا في رسم حدود نتائجها النهائية، ويمكن ترتيب هذه المتغيرات بحسب التأثير في مسار الأحداث، وعلى النحو التالي:
الموقف الروسي: تعتبر روسيا صاحبة اليد العليا في الشأن السوري منذ سبتمبر/أيلول 2015، ومنذ بدء العملية العسكرية الأخيرة، اقتصر الدور الروسي على غارات لمناطق في ريف إدلب الغربي، ودون الغطاء الجوي المعهود منذ 10 سنوات من التدخل الروسي. ومع زيارة بشار الأسد لموسكو الخميس الماضي، فإن مخرجات هذا اللقاء ستلعب دورًا مهمًا في إيضاح حقيقة الموقف الروسي من العملية، وقد توضح ذلك صحة افتراض وجود تنسيق روسي-تركي حول شمال غرب سوريا.
رد فعل إيران: يعتبر الوجود العسكري الإيراني في سوريا الأكبر والأوسع انتشارًا على الأرض في سوريا، وتمتلك إيران “ممرًا آمنا” عبر عدة مسارات برية وجوية يربطها بسوريا. وبالرغم من التصريحات الإيرانية حول دعم النظام السوري أمام العملية، إلا أن السؤال الأهم، يتمثل في التحرك الفعلي على الأرض لمجاراة إيقاع عملية “ردع العدوان”، وحتى اللحظة، لم تتضح حقيقة التحرك الإيراني الفعلي في سوريا أمام هذه التطورات عمليًا.
قوات سوريا الديمقراطية (قسد): تشترك القوات الكردية غرب الفرات (مركز ثقلها شرق الفرات) بحدود مباشرة مع كلا الجانبين (قوات المعارضة والنظام السوري) شمال مدينة حلب، ويعتبر موقف قسد من التطورات الأخيرة مهمًا، إذ إن البقاء على الحياد أو التدخل لصالح أحد الطرفين قد يُعتبر إشارة على موقف أميركي من العملية العسكرية الأخيرة، يؤكد ذلك العلاقة الوثيقة بين قسد والولايات المتحدة.
سؤال الجنوب السوري: تسود في محافظة السويداء احتجاجات مستمرة منذ سنة ونصف تقريبًا، وتبعًا لحدة المظاهرات، وارتفاع سقف مطالب المحتجين بدعوات اسقاط النظام السوري؛ فيُفترض أنه إذا ما قامت القوى الاجتماعية في السويداء بتأييد العملية العسكرية في حلب؛ فإن ذلك قد يفاقم من حدة المشهد الحالي، آخذين بعين الاعتبار أن القوى المحلية في السويداء مسلحة بطبعها، وتحظى بمكانة مهمة تبعًا للمكون الدرزي. كما أن سمة الفوضى الأمنية تعتبر الأبرز في الجنوب السوري، حيث تنتشر عدة فصائل مدعومة من إيران، بالإضافة لشبكات تهريب المخدرات، وغيرها من مظاهر الانفلات الأمني.
في الختام، تبقى الافتراضات والتصورات السابقة موضع تحقق، إذ إن ما بعد المسار العسكري في مدينة حلب سيكشف عن وجه التحركات العسكرية في سوريا، تبعًا لردود الأفعال للأطراف الرئيسية في سوريا. ومع تقلبات المسألة السورية خلال عقد ونصف من الزمان، فإن كافة السيناريوهات ممكنة، لا سيما عند الحديث عن الترتيبات الإقليمية الجديدة والآخذة في التشكل، وربما عنوانها الأبرز؛ مستقبل الدور الإيراني في الشرق الأوسط.