" أُكِلْتُ يومَ أُكِلَ الثور ..."

" أُكِلْتُ يومَ أُكِلَ الثور ..."
الرابط المختصر

قبل أيام من نشر هذا المقال، خرجت مذكرة تقدم بها عشرون نائباً في "برلماننا" يدعون فيها إلى عدم انخراط الأردن في أيّ تحالف يُزمع حشده لمواجهة خطر التهديد المتعاظم لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش". ما لفتني في ديباجة هذه المذكرة نقطتان وجدتُ أنهما تكشفان طبيعة "الرؤية" التي صدرت عنها، وكيفية تعامل "نوّابنا" مع قضايانا بناءً عليها.

الأولى: التشديد على الثقة بقدرة الجيش الأردني، وإمكاناته العسكرية، وكفاءته الكفيلة بدرء خطر "داعش"، والحيلولة دون اختراقه لـ"حدودنا" وتهديد أمننا.

والثانية: ترك الأزمات العاصفة بالبلاد المجاورة لحكوماتها تحلّها بنفسها، ولا علاقة لنا بها. وللبرهنة على هذا المنحى "التطهري الاجتنابي"، كان أن ذكّرونا بالمثل الشعبي القائل بأن "كل جهة تقلع شوكها بأيديها"، وبالتالي فإنّ "الحرب على داعش ليست حربنا."

أجدني، حيال طروحات كهذه، أبدأ بالإشارة إلى أن تساؤلاتي على ما جاء في المذكرة لا علاقة لها بخلفية "الموقف السياسي" لأصحابها (رافضاً أو مؤيداً) المستند، ربما، إلى إشهار الاعتراض على التعاون مع الولايات المتحدة في حلفها الجديد، على قاعدة الريبة في كل تحركاتها في المنطقة. فذاك له تفاصيله وشبكاته وتأويلاته وقراءاته المختلفة، إضافةً إلى ثابت موقفنا جميعاً "المدين" لسياستها الداعمة لـ"إسرائيل" حدّ الفضيحة الراشحة بالدم الفلسطيني الذي لم يجف بعد في غزة. ناهيك عن حلفها السابق عام 2003 وما كانت نتائجه في العراق وعليه وعلى المنطقة بأسرها. غير أنّ المقلق في "روح" تلك المذكرة يكمن في النقطتين السالفتين، حيث أجد، مجتهداً، وجاهة مناقشتهما والتعليق عليهما بوصفهما مسألة واحدة. مسألة ذات صدى داخلي اجتماعي.

إنّ خطر "داعش" لا يتمثّل فقط في قدرات التنظيم العسكريّة، وتجهيزاته النوعية،وتمويله الهائل، واحتمالية اختراقه لحدودنا، بحيث يصير الرد عليه بقوة الجيش الأردني وإمكاناته في الصدّ، بقدر ما هو ماثلٌ في طبيعة المشروع الطائفي/ التكفيري/ التفكيكي/ اللاعقلاني (اللاوطني صراحةً) المحمول على سكين جز الأعناق والتصفيات الجماعية لأيّ من "الأغيار المختلفين وغير الخاضعين" من الجماعات. مشروع يتخذ الدينَ عنواناً جاذباً لشتّى المقهورين والمحبطين، وحتّى لأولئك الشباب المفتونين بـ"المغامرة"، مع أنَّ أحداً عاقلاً لا يمكنه التعامي عن ظلاميته، وإجرامه الاستثنائي المصوَّر المبثوث عبر وسائل التواصل الاجتماعي لغاية الترهيب، وإقصائيته المتوحشة لغيره، وتهديده العَلَني بالتوسع خارج العراق وسوريا (والأردن غير مُستثنى، بالطبع.)

ونحن، إذا ما توافقنا على ما سبق، كيف يصير لمجموعة "نوَّابنا" العشرين، أصحاب المذكرة، التعامي عن هذا التهديد الفعلي وحصره في إطار الجغرافيا السياسية و"الحدود"! مع ملاحظة أننا لا نملّ في أدبياتنا السياسية والتأريخية من تكرار أنها حدود مصطنعة رسمها لنا الاستعمار بوثيقة سايكس- بيكو (الملعونة ليل نهار)، وأنّ ما يصيب "الشقيق" يصيبنا أيضاً! أم أنّ هذا كلّه مجرد بقايا "كليشيهات" عفا عنها الزمن، والشقيق ليس كذلك، ونحن ما عدنا نحن؟ فإذا كان هذا صحيحاً (يبدو أنه صحيح)؛ فلنبدأ بعملية مكاشفات صريحة دون مواربات لعلّ "سياسيينا" قد احترفوا ممارستها.

كما أنَّ للمتعِّن في ديباجة المذكرة التفكُّر بارتكاز أصحابها، في أحد مبررات مذكرتهم، على عدم استفزاز "المتعاطفين" مع "داعش" داخل الأردن، وباسمهم الصريح: "السلفيون الجهاديون". أي: وجوب الركون إلى مهادنتهم وطمئنتهم! معقول! نوابنا العشرون، بهذه الحجة، إنما يمنحون أولئكَ صك الرِضاوالموافقة لا على وجودهم داخل المجتمع فقط؛ بل طمئنة قلوبهم بتوفير ضمانة أنّ الدولة تتغافل عنهم وتتساهل معهم!

إذَن: نحن حيال الداخل. الخطر يكمن في الداخل أيضاً، والمطلوب (بحسب المذكرة) عدم إيقاظه باستفزازه، بينما "المنطق" يقتضي معالجته باستئصال أسبابه ومسببيه وجميع مَن يقف وراءه ويغذّيه. فما دمنا حيال "مشروع" تمثّله داعش اليوم، تفكيراً تكفيرياً وأفعالاً إجرامية تفكيكية للمجتمعات خارج "الحدود"، فماذا عن الحواضن المتعاطفة مع هذا المشروع اليوم، وبالأمس– إذ ليس في الأمر وقع الولادات المفاجئة، وغداً.. داخل "الحدود"؟ فحواضن اليوم هي روافد الغد إذا ما عقدنا "هدنةً" معها.

إنه سؤال الأمن والحدود الآمنة، يا نُوَّابنا. الحدود من داخل ومن خارج معاً، في علاقة جدلية تفاعلية مؤثرة ومتأثرة تلغي المسافةَ بين طرفيها كلّما اشتعلت الحرائق في أحدها. باختصار: هل ترون في "داعش" عدواً خَطِراً ينبغي محاربته أم لا، بصرف النظر عن حلف تقوده الولايات المتحدة أو تقودونه أنتم؟

وإنه، في الوقت نفسه، السؤال إذا ما كنتم حقاً تنوبون عنّا في هذه المسألة، بناءً على مَثَل "اقلعْ شوكك بإيدك"، متناسين مَثَلاً سائراً آخر خلاصته: "أُكِلْتُ يومَ أُكِلَ الثور الأبيض".

كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك