أن نبني على حَجَر
* شقيقتان ناجحتان بكلّ معاني النجاح، عُثر عليهما ميتتين في ظروف غامضة على حواف عمّان؛ فبرزت على الفور فرضيتان لا ثالث لهما: التعرض للقتل (ما يعني أن هناك جريمة جنائية)، أو الانتحار (ما يستدعي كثيراً من التأمل كون هذا الفعل يستلزم أحوالاً أو شروطاً قاهرة، لا بل غامضة، من الصعوبة بمكان توفرها في وقت واحد لدى شخصين، فما بالكبشقيقتين ناجحتين!). ما بين هاتين الفرضيتين ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بحشود من الآراء المنحازة إلى هنا.. أو هناك. وهذا أمر طبيعيّ. لكنّ غير الطبيعي هو لغة الجزم الصادرة عن عدد ليس قليلاً من الناس. فمن أين لهؤلاء هذا الوثوق؟ ألَم يضعوا في اعتبارهم نسبة رجحان الاحتمال الآخر، المُنحّى جانباً، وخاصة أن التحقيق لم يزل في بدايته، وثمة ما يمكن الكشف عنه، الأمر الذي يزيل الالتباس ويُظهر "حقيقة" الواقعة؟ ناهيك عن الجرعات المتسربة من إشاعات مسيئة لا تراعي حُرْمة ما ينبغي احترامه!
* ضابط أردني أطلق النار، داخل قاعة الطعام في معسكر تدريب تموّله وتشرف عليه الولايات المتحدة في الأردن، يضم أفراداً من جنسيات مختلفة، فقتل ضابطين أميركيين، وجندي جنوب إفريقيّ، وزميلين أردنيين، ثم قُتل! لماذ؟ وهل كان الفعل مخططاً له، أم جاء ردة فعل عنيفة نتجة تعرض الضابط لاستفزاز من الأميركييين (كما قيل)، أم هو متماثل، على نحو ما، مع عمل شبيه سابق حدث في إحدى القواعد الأميركية في أفغانستان قبل سنوات، نفذّه ضابط أردنيّ "متعاون" أيضاً، وإذ به مرتبط بحركة طالبان؟ فهل كان هذا تحت تأثير أفكار إحدى المجموعات الجهادية، أو له صِلة بها؟ ثم؛ ما حقيقة مقتل هذا الضابط؟ فهناك روايتان: الأولى أنه انتحر بإطلاق النار على نفسه، والثانية أن النار أُطلقت عليه إثر العملية، ولهذا السبب رفضت عائلته استلام جثمانه بذريعة "أنه أُعدم ميدانياً" - غير أنّ أخباراً أخرى تفيد بأنّ العائلة نفت ذلك!
كلّ تفصيل/ سؤال من تفاصيل/ أسئلة هاتين الواقعتين شكّلَ ركيزة أولى، وربما وحيدة، استندت إليها سلسلة أحكام لدى جميع الذين تناولوا الموضوع– إنْ كان على مواقع التواصل الاجتماعي، أو في حلقات النقاش الجارية داخل المجتمع. وكلّ "ركيزة" هي بمثابة الأمر المحسوم لدى المتبنين لها، وبالتالي ليس ضرورياً البحث، أو التفكير حتّى، بالركائز الأخرى التي تتحلّى بالوجاهة، هي أيضاً، عند أصحابها.
ما معنى ذلك كلّه؟
عند التأمل، ترانا نجد أنها تفاصيل. مجرد تفاصيل يمكن لكلّ واحد منها أن يشكّل قصة تتشعب وتترامى، فننشغل بها طوال نهار أو أكثر. نخوض فيها ونطلق كثيراً من الكلام يتسم، في معظمه، بنبرة التأكيد الواثقة من امتلاك أصحابها الحقيقة! وإني أغبط هؤلاء حقاً. أغبطهم على ذاك "التماسك" الذاتي، الشخصي، لا بُدّ، والذي من دونه ما كان بإمكانهم إطلاق أقوالهم الحاسمة المحسومة، وكأنها بديهية أزليّة أبديّة!
نحن هكذا: نخجل من معارفنا الناقصة؛ إذ نُحيل هذا النقص على أشخاصنا، فنصغر في مرايانا قبل أن نبدو صِغاراً في مرايا الآخرين. وفي حالة شاذة كهذه يكون من الطبيعي اللجوء إلى حيلة الدفاع عن النفس، أو بحسب أدبيات علم النفس: آليات ترميم الذات الهشّة التي تعاني فراغات معرفية فتلجأ لإنكارها، مواربةً، عبر الادّعاء بحيازة نقيضها: الاكتمال المعرفي الواثق الأكيد! وبذلك تحقق لنفسها ضرباً من التوازن الداخلي.
هذه واحدة. أما الثانية؛ فإننا عادةً ما نركن إلى ما يتوافق وهوانا، أو ما طُبعنا عليه أفكاراً، وتوجهات، وانحيازات، وخلفيات ثقافية وسياسية، لا بل جهوية حين تضيق الأمور لتصل، أحياناً، إلى الالتصاق بموروث متخلخل متهافت من الأقوال السائرة والأمثال الشعبية، فنتخذ منها حِكَماً وأحكاماً!
كثيراً ما نقرأ ونتداول هذه الجملة: "المسألة مفتوحة على كافة الاحتمالات".
والمسألة، أيّ مسألة أعني، تتكوّن من جملة تفاصيل وأجزاء لا تتضح صورتها إلّا عند تجميعها. ليس تجميعها فقط؛ بل أيضاً عند إعمال تفكيرنا العاقل بها عندما نباشر بإعادة تركيبها على نحو يتطابق مع المنطق، ويوّفر لنا إجابة "أكثر احتمالاً".
هذا ما أريد الوصول إليه: الاحتمال الأكثر قبولاً للعقل، بعيداً تماماً عن الانحيازات، والرغبات الذاتية، والخضوع للمزاج العام، ومسايرة الجاذبية والإثارة في ما يحدث من حولنا. ولأنّ الأشياء تستدعي تأكيداتها الكائنة في الذاكرة؛ فلقد حضرتني فقرة كتبها الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، كنتُ دونتها على أحد دفاتري، تفيد بالآتي: "لا شيء بُني على حَجَر، كلّ الأشياء بُنيت على الرمل، لكننا ينبغي أن نواصل البناء وكأنّ الرمال حجارة."
إذَن هي هكذا: كيف نحوِّل رمال التفاصيل العشوائية، المزاجية، غير الموضوعية، إلى حجارة نبني فوقها مسائلنا قيد التشويه والنقصان الدائمين.
باختصار: إنها مسألة كيف نقرأ العالم بإعادة ترتيب تفاصيله بتعقُّل.
إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.