أنفاس أردنيّة بانفعالات سوريّة وإيرانيّة

أنفاس أردنيّة بانفعالات سوريّة وإيرانيّة
الرابط المختصر

الوضوح الذي في الصورة السوريّة يقابله غموض في مثيلتها الأردنيّة. والناس كما هو معروف يحبّون ما هو واضح ويقيني؛ لذا، ليس من الغريب أن تجتذب الصورة الواضحة حماساً متأجّجاً، وأن تفعل فعلها في تغيير أولويّات ومواقف "مقدسّة".

ولكن الوضوح، نفسه، يكون بالعادة سطحاً يخفي غابة من الغموض!

وبالمقابل، فإن الغموض الذي في الصورة الأردنيّة يرافقه ارتياح غير مفهوم. والناس كما هو معروف يحيّرهم الفضول، ولكنّه يثير خيالهم، كذلك، أحياناً؛ لذا، ليس من الغريب أن يجنح العقل للتعامل مع غموض الصورة برغائبيّة فادحة، تقود الأذكياء إلى التورّط بسذاجات لا تشبههم.

غير أن الغموض، بدوره، يستتر بإشارات واضحة وأفكار ثابتة!

في الجانب السوري، مثلاً، نلحظ أن وسائل الإعلام تحوّلت، فجأة، منذ نحو ثلاثة أسابيع، لتسمية تنظيم "دولة الاسلام في العراق والشام" بمختصر الأحرف الأولى "داعش"، بالتزامن مع فقدان "قوى" معارضة، محسوبة على بعض الخارج، لوزنها النوعي السابق بسرعة ملفتة. هذا في الوقت الذي يمكننا فيه أن نرى أن الحديث عن "جنيف 2" بات أشدّ إلحاحاً دون أن تكون الطريق إليه أكثر وضوحاً وقرباً، ما قد يتيح لدمشق الوقت الكافي لاختيار مفاوضيها ومحاوريها المستقبليّين!

ومريح أن "داعش" ليست مهتمّة بالحوار، ولا مكان لها دولياً فيه!

في الجهة الأردنية، بدأ يتردّد حديث مواز عن دور "وسيط" لعمّان بين الولايات المتحدة وإيران تارة، وبين سوريا والسعودية تارة أخرى. ويشبه هذا الحديث أوهام السياسة الأردنية التي خيّل إليها، نهاية الربيع الماضي، أنّها مؤهّلة للعب دور "وسيط" بين موسكو وواشنطن، فاكتشفت بعد هنيهة أن واشنطن لم تكن تأخذ ذلك على محمل الجدّ، ثم اصطدمت بموسكو التي واجهت المحاولة بالتجاهل والإهمال.

كان ذلك درساً قاسياً بدّد أوهاماً لدى الساسة والنخبة!

والواقع، إن حجم الأردن ودوره الفعلي في الأزمة السوريّة يتركان عمّان تائهة وراء أفكار مكرورة مثل الحديث الرغائبي حول البحث عن حامل، موثوق ومقبول سوريّاً، لرسالة ملكيّة مرتقبة للرئيس الأسد، باعتبار أن الرسائل هي تمام ما ينقص لتنتظم العلاقة بين البلدين في أفق السياسة الدوليّة الجديد؛ بينما تقود هذه الفكرة غير المقنعة آخرين ليذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، فيتحدّثون عن قرب تشكيل حكومة أردنيّة جديدة تتمتّع بعلاقات مقبولة مع دمشق!

وهذا كلام لا يبقى منه إلا أن عمّان، نفسها، بحاجة لوسيط!

والأدق، أن عمّان أضعف حلفائها جميعاً، وهي بالتالي محكومة لهذه التحالفات، لا تخرج عنها، وستبقى بانتظار الإشارات الواضحة التي تلزمها بالتقدّم أو التأخّر، مع هامش تعجّل أو تردّد محدود. وهي في كل الأحوال لن تقفز من "معسكرها" لمصافحة دمشق، ولن تبادر باتّجاه طهران. لا سيما وأن الأداء السياسي يجعل من الأردن ثمرة لا يكلف أحد نفسه بتجشّم عناء صعود الشجرة لقطفها..

ثمرة تُترك حتى تنضج تماماً، فتسقط في الفم من تلقاء نفسها!

الوضوح في الصورة السوريّة يفيد بأن دمشق تتّجه لاستعادة نفسها، ودورها، وتأثيرها، وتستعدّ لتتبوّأ مكاناً ما في الأفق الدولي الجديد. بينما الغموض في الصورة الأردنيّة تقف وراءه الأوهام والعقد الكثيرة التي استوردتها السياسة الأردنيّة لبلادها متعمّدة، طمعاً في دور مستقبلي تبدّد مع تبخّر احتمالات العدوان أو فرض تسوية تغيّر الواقع التاريخي في الشقيقة المجاورة.

وهنا، يبدو مصير الثمرة، التي تترك لحالها إلى أن تنضج، ماثلاً ومقلقاً!

لتجنّب هذا المصير تتداعى الهواجس الأردنيّة، وتجيش الانفعالات لتبلغ عناوين غير مطروقة في السابق: دمشق وطهران و"حزب الله". ويدفع عمّان لإرسال يدها إلى جعبتها بحثاً عن صنيع أو خدمة ما تؤديها، ويمكن أن تمنحها بعض الطمأنينة حول مستقبل تسمع عن ملامحه عبر القنوات الأمنيّة، لا على الموائد السياسيّة.

ولا غرابة، إذاً، أن الأنفاس الأردنيّة تحمل انفعالات سوريّة وإيرانيّة!

غير أنّها مجرّد انفعالات. انفعالات لا تتعاطى سياسيّاً مع الأفق الدولي الجديد، ولكنها تتحسّب وتتحوّط لتخبّط وارتباك الحلفاء التاريخيّين، الذين لا تتصوّر عمّان نفسها منفكة عنهم، أو خارج سياقهم، أو متحرّرة من حاجتها إليهم.

ناهيك أن تصبح في مواجهتهم والتناقض سياسيّاً معهم!

من الملفت، هنا، أن الانفعالات الأردنيّة الرسميّة باتّجاه طهران وحزب الله، ليست نفسها الانفعالات تجاه دمشق. مع الطرف الأوّل، لجوءٌ إلى جسور رخوة ممثّلة بأطراف محسوبة على المعارضة والشارع. ومع الثانية، محاولة سلوك خط رجعة يقوم على أساس القرار الدولي، مقروناً ببالونات تصوّر عمّان جاهدة للبحث عن طريق وخطوط رسمية تقود إلى دمشق.

هذا التباين الأردني يقابله، كذلك، تباين من الطرف الآخر!

طهران وحزب الله أكثر اهتماماً بـ"الدبلوماسيّة الشعبيّة"، بينما تسجّل دمشق تحوّلاً هامّاً في الجنوح إلى استعادة الصلات الرسميّة والدبلوماسيّة الدوليّة، والانخراط في عمليّات سياسيّة منسّقة مع الحلفاء (الروس على وجه الخصوص)، ولا تبدي اهتماماً باستعجال عمّان نحو ترجمة المتغيّرات الدوليّة أردنيّاً. ومن جانبيهما يبدي الإيرانيّون وحزب الله اهتماماً باقتناص الفرصة الدوليّة لتثبيت الحضور في المشهد الأردني، ويدركان أن طريقهما في ذلك أطول من الطريق السوري الممهّد بوشائج وثيقة وتاريخية، لا تعيقه إلا السياسة.

بينما ما يزالان، هما، بحاجة لاجتياز عتبة المجتمع الأردني نفسه!