أشياء جديرة بالنسيان
من أوجه الافتراء على الحقيقة ادّعاء الإحاطة بها، وامتلاكها، والإلمام بكافة المجريات التي أدّت إليها. غير أن العمل على إظهار تواضع عدم امتلاك اليقين المعرفي، لدى رهط من "مثقفينا" وكتّابنا ومالئي مساحات صحافتنا، الورقيّة والالكترونيّة على السواء، ليس بالأمر السهل أو الهيّن عليهم.
كما أن للكلمة المكتوبة والمنطوقة قوة وسطوة تكسبان ناطقها نوعاً من الارتياح أو الاكتفاء، تذهبان به، عند وقوعه على استجابة المُنصت إليه على نحوٍ يشي باقتناعٍ ما، إلى التسرع بنسج أحكام قاطعة على وقائع الواقع والحياة الصاخبة من حوله. يتحوّل "هذا الناطق/ الكاتب"، في مرايا ذاته المحيطة به كجدران قلعة، إلى سلطة بفعل الكلمة السحري! هذا أمرٌ يمكن فهمه ضمن بديهيّة رضا الذات عن أدائها الممارَس على قاعدة التواصل الاجتماعي - وما أكثر وسائله الالكترونيّة هذه الأيام، المتاحة لشتّى ما تأتي به "القرائح" الفرديّة بأفكار بارقة في سماوات الانفعال اللحظي، والنشر الفوري في الوقت نفسه!
فبمجرد البدء بالإطلال على المواقع بشتّى مسمياتها، والصفحات الفيسبوكية، ونُسَخ الجرائد الالكترونيّة، التي كانت تجتذب فضولنا في البداية للحصول على المعلومات وقراءة ما يدور حولنا من آراء و"رؤى"، بينما نجلس في أمكنتنا مرتاحين، بتنا الآن وكأننا نطفو متخبطين فوق أمواج بحر يتلاطمه الكلام. وهكذا، وبدلاً من الخروج بطمأنينة وهدوء الحائزين على معارف جديدة (الأمل المُرتجى للباحثين عنها)، نجد أنفسنا مصدوعين بشواشٍ في الرأس، و"زغللة" في العينين، وبلبلة تدور في البال تُطيح بآمال التزود بالمعارف، وتعيدنا إلى نقطة الصفر أو الخواء!
اللافت في كل هذا، أن مجرد نشر "رأي شخصي" وتبيان "وجهة نظرٍ ما"، حين يُعممان عبر ما بات يُعرف بـ"الشبكة العنكبوتية"، سرعان ما يتحولان إلى "أحكامٍ وحدود وتحديدات" شبه جاهزة ينبغي اعتبارها من الأمور الموجبة لـ"الحوار" والمزيد من الحوار، ولو عبر التعليقات المرسلة على عواهن القُرّاء/ الكُتّاب الالكترونيين (وما أغزرهم وما ألطفهم هذه الأيام!)، وحماستهم المتطرفة البالغة حدود القذف بأقذع الشتائم والتحريض عبر استسهال التخوين. وهكذا نكون انتقلنا، بين ليلة وصباح، من قائمة الأمم الأقلّ قراءة لنصبح الأمة الأكثر كتابة (بذريعة إتاحة المجال لحرية الآراء، طبعاً!).
لكنها ليست كلّها (التعليقات، أو المداخلات، أو "الكتابات" المتصفة بالتعقّل النسبي) قابلة لإمعان التفكير فيها وصرف الوقت عليها. فمنها ما هو مجرد "تنفيس" عن غضب يخصّ صاحبه، وبعضها لا يعدو أن يكون خربشات لخواطر عامة عائمة منفلتة من أيّ ضبط، وثالثها استعراضٌ بائس ومكرر لكلامٍ قديم فقد صلاحيته، ورابعها ادّعاءٌ بفصاحةٍ أدبية هشَّة، إلخ. ومع ذلك ترانا، كأفراد نتعايش مع "هذا المجتمع الافتراضي"، نقتل أوقاتنا، ونغتال أعصابنا، ونستنفد بقايا طاقات التركيز والصفاء لدينا، فنبادر إلى طي الصفحات المحتشدة بما يليق بالنسيان، ورميها في أوعية سقط المتاع، ونطفئ الشاشة اللعينة.
غير أننا، وفي الغد، اليوم التالي، ننسى أكوام تلك "الأشياء" الجديرة بالنسيان، ونعيد فتح الصفحات من جديد، لنأخذ حصتنا كاملةً في قتل أوقاتنا، واغتيال أعصابنا، واستنفاد طاقات تركيزنا وصفائنا، كأنّ شيئاً لم يحدث.
إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.