أردوغان إذ يدفع تركيا للحافة!
حالما حطّت الطائرة في مطار أتاتورك داهمني شعور بأن اسطنبول ليست كما زرتها للمرة الأولى مطلع عام 2012. هذه المرة كان المطار أقل تنظيماً رغم أنه لا يزال بعيداً عن الفوضى. وهي ملاحظة يمكن تعميمها على كامل اسطنبول: لا شيء يمكن وصفه بالسيئ، لكن الأمور أقل جودة مما كانت عليه. كان لافتاً ازدياد الأعلام التركية، إذ يلحظ الزائر انتشارها منذ وصوله المطار، وعلى امتداد الكثير من الشوارع وبعض العمارات الشاهقة، في مؤشر على أزمة هوية تعيشها الدولة منذ نشوئها، وللسخرية يأتي ازدياد رفع الأعلام متزامناً مع تراجع مستوى الخدمات والنقل والنظافة والسير.
يسري القلق والتوتر والترقب في الهواء، في اسطنبول، كما في مجاملات التجار وعباراتهم، وفي تذمر سائقي التكاسي الذين يشكون من رجال الشرطة وانتشار الرشوة بينهم. الكل يترقب الانتخابات المقبلة باعتبارها الأمل الأخير في الاستقرار. في باقي مناطق تركيا تأخذ الأمور مناحي أكثر حدة، وتعبر التناقضات عن نفسها بقوة، لكن اسطنبول وحدها تحتوي خمس عدد سكان البلاد، وتشكل بيضة القبان، لذلك حرّك أردوغان أنصاره عبر سنوات، من مناطقهم الريفية إلى ضواحي وأحياء اسطنبول، غير مكتف بمعقله في منطقة الفاتح في قلب المدينة، ولا بمستوى التأييد المرتفع له بين تجارها وصناعها.
رجب طيب هو محور الحديث بين أي اثنين في تركيا. لا ينكر أحد هناك -حتى من معارضيه- أن الرجل صاحب كاريزما ومشروع، وأنه استطاع تثبيت اسمه إلى جانب مؤسس الدولة أتاتورك ضمن الرواية التاريخية للدولة التركية.
دخل التاريخ التركي بصفته الشخص الذي تجرأ على اتخاذ خطوات عملية لإنهاء الصراع مع الأكراد. كانت خطوة محفوفة بالاعتراضات والمخاطرة، حتى داخل حزبه. بعد سنوات ثبت أن جرأة أردوغان منحته تأييد الأكراد ومنحت الدولة التركية سنوات من الهدوء تمكن خلالها حزب العدالة والتنمية من قيادة مشروع بنيوي وتنموي ضخم، وبدأت عملية سلام طويلة مع الأكراد.
أردوغان قد يدخل التاريخ بطريقة أخرى، بصفته الرجل الذي قد يتسبب في هزة أمنية غير مسبوقة تطيح بكل المكاسب التنموية، وهذه المخاوف بالذات يعبر عنها مثقفو وتجار اسطنبول وصحفيوها. الأكراد لم يعودوا كما كانوا قبل 10 أعوام، وفي وسط شارع الاستقلال في قلب اسطنبول تقف مجموعات غنائية من فرق الشوارع، بعضها يغني أغاني شعبية كردية بطريقة تفيض بالتحدي. لم يكن الأكراد يفعلون ذلك قبل أعوام عدّة. واليوم يتجمع في كوباني وشمال سوريا آلاف المقاتلين الذين يتدربون يومياً، وبرهنوا عن نوعية قتالية مقلقة للغاية بالنسبة لأردوغان، تجلت تلك النوعية في معارك الأكراد ضد داعش. وجود هكذا نوعية من المقاتلين يجعل مسألة المناطق الآمنة التي يتحدث عنها الأتراك تبدو إلى حد بعيد غير واقعية، إلا إذا حركوا قوات برية كبيرة، وحينها ستتفجر الأمور على امتداد جنوب شرق وجنوب البلاد. يقول أتراك بسطاء إن الأحزاب الكردية تنأى في الغالب عن استهداف المناطق المدنية، لكن تكرار استهداف مراكز الشرطة في المدن التركية الكبرى سيكون ذا تأثير كبير.
حتى اللجوء السوري إلى تركيا، الذي كان نقطة لصالح أردوغان، أصبح يشكل عبئاً على الاقتصاد والخدمات إلى الحد الذي انقلب فيه المزاج التركي معادياً للاجئين السوريين.
يكتمل التعقيد بأنه رغم اتهام معارضي أردوغان له بأنه الراعي الرسمي لداعش، إلا أن قراءة متعمقة تشي بأن المنفعة المتبادلة بين داعش وأردوغان قد تنقلب إلى العكس تماماً، وخصوصاً إذا ما اضطر أردوغان للتشدد في وجه التنظيم، نتيجة ضغط الأمريكان والأوروبيين، أو ضغط شركائه في الحكومة إذا خسر انتخابات الإعادة، وخسارته هنا لا تعني تراجعه إلى المرتبة الثانية فهو سيبقى بالتأكيد في المرتبة الأولى، لكنها تعني عدم حصوله على مقاعد برلمانية تكفي لتشكيل الحكومة منفرداً. وهنا بالذات يعتقد مراقبون أن الأوروبيين يعملون على تهيئة سقوط بطيء لأردوغان خشية مضاعفات أي سقوط مفاجئ، وهم ويمتلكون أوراقاً مؤثرة، من بينها الأصوات التركية في أوروبا، والعلاقات التجارية، وغيرها. وهنا يبرز السؤال حول مدى الأذى الذي تستطيع داعش إلحاقه بتركيا إذا قررت الأخيرة إغلاق الحدود ووقف خطوط التدفق الجهادي البشري والمالي.
وفيما يتهم خصوم أردوغان بأنه يثير معركة غير محسوبة مع الأكراد، فقط، لدواع انتخابية، فإن تيارات مهمة داخل "العدالة والتنمية" نفسه تخشى أن الصدام مع الأكراد بدأ يتدحرج مثل كرة الثلج وقد لا يمكن إيقافه بـ"كبسة زر" بعد الانتخابات.
الجميع متفق، تقريباً، على أن الجيش التركي قادر على منع انزلاق البلاد في الفوضى، لكن إن بدأ الاستنزاف فسيفقد الاقتصاد التركي الكثير بسبب فقدان الاستقرار.
ترقب وتوتر شديد وتشاؤم مرتفع إزاء المستقبل ما بعد الانتخابات، حتى بين بعض من أيّد أردوغان في السابق. لسان حال الجميع هو أن الرجل الذي صنع النهضة الأخيرة في تركيا وقادها إلى تنمية اقتصادية وتجارية قد يكون هو نفسه من يقودها إلى التراجع!
علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد.