آل شرف ... تكسير هيبة المؤسسات واستقلاليتها!!
قرار الحكومة المفاجئ بإقالة محافظ البنك المركزي الشريف فارس شرف, 41 عاما, ليس الأول في حياة من تربع على سدة هذا المنصب الحساس الذي يحول شاغله بحكم الموقع إلى "رئيس وزراء الخزانة", بصفته المسؤول الأول عن صون استقرار النقد وهيبة الدولة المالية, لجم التضخم, استدامة النمو الاقتصادي وحماية سمعة القطاع المصرفي وضمان شفافيته, حتى ولو "دق ذلك على عصب" الكثيرين.
لكنه بالتأكيد كان أسوأ قرار حكومي من نوعه لجهة تدني مستوى الإخراج الفني وتأثيره على تهديد مصداقية الحكم ونزاهته في زمن يواجه فيه الأردن تحدي الإصلاح السياسي, ويحاول إقناع المشككين داخل البلاد وخارجها بصدق نوايا التحديث ومحاربة الفساد والمفسدين, وسط رياح التغيير العربي.
فكل المؤشرات حول أسباب الإقالة تدور للأسف تحت عنوان واحد اسمه عدم رضا رجال الحكم عن سياساته المتشددة كونه لم يكن على "قد اليد", عدم رضوخه لاستحقاقات سياسية معينة وما تستوجبه من قرارات لها تداعيات سلبية على الاستقرار النقدي, وضع الميزانية وصحة الاقتصاد الكلي على المدى المتوسط والطويل.
التاريخ يذكر أن ثلاثة من المحافظين الستة الذين تولوا هذا المنصب منذ تأسيس البنك المركزي عام 1971 جرى إبعادهم عن مناصبهم قبل انتهاء مدة عقودهم بطريقة غير قانونية لكن حتما أكثر حضارية- وذلك على أيدي رؤساء حكومات. أقيل أولئك فقط لأنهم عارضوا سياسات الرئيس وفريقه الاقتصادي حسبما يقتضيه واجب كل منصب عام, أو لأنهم رفضوا الإذعان لأوامر صناع القرار تضمنت مواقف تكتيكية تخدم مصالح سياسية آنية لكنها تؤثر على الوضع المالي والاستقرار النقدي.
أول المبعدين كان مؤسس البنك المركزي المرحوم خليل السالم الذي نقل بين ليلة وضحاها إلى رئاسة المجلس الوطني للإعمار عام 1972 لخلافات مع رئيس الوزراء آنذاك. الثاني كان د. محمد سعيد النابلسي, الذي جلس على سدة البنك المركزي لمدة 19 عاما خلال فترتين لم يسلم خلالها من نيران الحكومات التي خدم معها. الثالث أقيل بعد الأزمة الاقتصادية التي أدت لانهيار الدينار عام 1989 . الشريف شرف اصطدم مع الكثيرين. في بداية العام, رفض طلب وزير المالية بتغطية حساب الحكومة المكشوف إذاك, ما يعني انه رفض طباعة دنانير فوق الكتلة النقدية المتفق عليها. ثم عارض وزير الصناعة والتجارة في مشروع قانون بيع الأموال المنقولة مع حق الاسترداد وغير مجرى التصويت على التعديلات في البرلمان. كسر حاجر الصمت وطالب الحكومة بتبني برنامج وطني للإصلاح الاقتصادي يدعم الاستقرار النقدي والمالي في المملكة بدلا من استمرار صرف المساعدات والأموال على النفقات التشغيلية وعلى زيادة معاشات الموظفين وتعيين عاطلين عن العمل في الجهاز البيروقراطي المتضخم والمترهل. كما حذّر من تنامي الفجوة في ميزان المدفوعات ونسب الدين العام الداخلي والخارجي. رفض تعيين اثنين من كبار المستثمرين المثيرين للجدل رؤساء مجلس إدارة احد البنوك, "وقف على ركبة ونصف" ضد طلب إزالة اسم رجل أعمال أجنبي هارب ومطلوب عن قائمة الأردن الرسمية لغاسلي الأموال. كما حوّلت وحدة مكافحة غسل الأموال مستثمرا أردنيا ذات صلات قوية بكبار المتّنفذين الإماراتيين إلى النائب العام بتهمة محاولة تبييض أموال ما فتح "عش دبابير".
لكن قرار إقالة رجل وطني نزيه ومستقل مثل الشريف شرف - الذي تحول إلى مضرب مثل لمسؤول وطني لا يخشى قول الحقيقة لحماية استقلالية مؤسسات الدولة ومنع "عناصر جنائية" من اقتحام القطاع المصرفي, عكس بمجمله عملية إخراج مسرحي معيب أشرف عليها رئيس الوزراء شخصيا ودحرجها من دون أن يدرك عواقبها -- فضيحة سياسية-اقتصادية-مالية-أخلاقية بامتياز يدفع ثمنها الأردن داخليا, عربيا ودوليا.
القطاع المصرفي العربي والعالمي مصاب بالذهول ويبحث عن إجابات تشفي الغليل. البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, الجهتان اللتان أشرفتا على برنامج الإصلاح الاقتصادي حتى مطلع العقد الحالي, يبحثان عن سبب واحد مقنع.
أردنيا, ما يزال الكثير منا يتساءل عن مغزى إرسال رجال الأمن لمنع الشريف شرف, ونائبته للشؤون الفنية خلود السقاف وسكرتيرتيهما من دخول مكاتبهم صبيحة اليوم الثاني لقرار تعيين نائب المحافظ للشؤون الإدارية سعيد شاهين محافظا. جاء ذلك قبل أن يقبل الشريف شرف قرار استقالته الذي فرض عليه عبر الهاتف في اعتداء فاضح لحرمة وقدسية أكثر المناصب العليا استقلالية وانعزالا عن تجاذبات مراكز القوى.
الرواية الرسمية المرتبكة أهانت ذكاء الكثيرين. السياق الأوضح لما حصل, قطع الشك باليقين بأن تقاليد جديدة ومهينة باتت تتحكم بعالم إدارة شؤون الدولة الرسمية خلال السنوات الماضية في عصر تداخل الحكم بالتجارة وازدواجية الخطاب الرسمي الصارخة بين القول والفعل.
سيناريو الإقالة وتفسيرها الركيك.
إذا, كشفت عملية طرد الشريف شرف المعيبة ما تبقى من الطابق الذي يحاول الكل التستر عليه بورقة توت. كشفت تفردا مرعبا في صنع القرار, شخصنة عالية, عدم إدراك لمتطلبات النزاهة والشفافية وعدم احترام للمؤسسية وللقانون. كل ذلك صب في مصلحة الشريف شرف على حساب مصداقية المؤسسة الرسمية.
فالرئيس يطلب من شرف الاستقالة والأخير يرفضها لعدم تطابق ذلك مع الحالات التي يجوز فيها لمجلس الوزراء إنهاء خدمات المحافظ في المواد 20-22 . شرف يحتج على أسلوب الإقالة ويرد أنه ليس رئيس بلدية أو مدير وحدة صحية لكي يقال بهذه الطريقة. وعلى الفور يعين محافظ جديد قبل أن يقبل استقالته. ثم تأمر الحكومة بإرسال عناصر أمن إلى البنك مساء السبت لمنع دخول المحافظ شرف الذي لم يكن قد قبل إقالته بعد. في الأثناء يتصل مكتب الرئيس بالشريف شرف ليعلمه أن الحكومة بصدد إصدار بيان للإعلان عن قبول الاستقالة لكن الأخير يهدد بنفي الخبر لأنه لم يقبل الاستقالة.
صباح الأحد, يعترض رجال الأمن سيارة السقاف أثناء محاولتها دخول البوابة الرئيسية للبنك المركزي الساعة 9.30 صباحا على مرأى ومسمع حراس البنك وموظفين ومارّة. تعامل السقاف التي تربت في كنف عائلة نزيهة بطريقة فوقية مهينة وكأنها مجرمة مطلوبة للعدالة, بحسب شهود عيان. تسأل عن الجهة التي أصدرت هذه التعليمات, فيقال لها أمام الناس: "من فوق".
ترد عليهم قائلة إن "الملك عبد الله الثاني قال أخيرا: ما في تعليمات من فوق"; فتسمع العكس: "لا في من فوق". تسأل: هل انتم من البحث الجنائي أم من الأمن الوقائي لأن المشهد اختلط عليها, فيرد قائد مجموعة الأمن الذي عرف باسمه الكامل: "يللي بدك إياه".
في الأثناء, لا يقوى المحافظ الجديد على حماية موظفيه أو وقف الاجتياح الأمني للبنك المركزي. موظفو البنك ما يزالون في ذهول وصدمة. يتصفحون المواقع الاخبارية ليعثروا على إجابات مقنعة. يشعرون اليوم أن ظهرهم تكشف ولم يعد لديهم الهيبة ليقولوا لا وان الرجل منهم سيعاقب إذا قال كلمة الحق.
في واشنطن, يراقب المشاركون في الاجتماع السنوي لمحافظي البنوك المركزية مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المقاعد الشاغرة حول السيد عادل شركس مساعد مدير دائرة الأبحاث والموفد الوحيد الذي وصل واشنطن بعد دربكة الاستقالة.
وأمام تعاظم فضيحة الإقالة, يخرج علينا الرئيس باتهامات ضد الشريف شرف تعكس درجة عالية من الاستهتار والشخصنة. يحاول حشد الرأي العام لصالح قراره عبر اللعب على أوتار الغرائز وتقسيم الناس إلى ليبرالي ووطني. يلعب على حال الاحتقان الشعبي, على تدني الأوضاع المعيشية والجهل المستفحل لكسب شعبية وتبرير فعلته بقوله إن الشريف مع رفع الأسعار وضد الاقتصاد الاجتماعي. وهذا ليس صحيحا. يبتعد البخيت عن تقديم رواية متماسكة ومقنعة تظهر الجانب المتعلق بالسياسات أو الإجراءات التي شعر معها بضرورة إقالة محافظ لم يكمل عشرة شهور من عمره ومعروف عنه نظافة اليد, الالتزام بالأخلاق والمبادئ, واتخاذه مواقف شجاعة عندما كان الرئيس التنفيذي/ رئيس مجلس إدارة الوحدة الاستثمارية للضمان الاجتماعي. نسي الرئيس ربما بأن الملك عبد الله الثاني نفسه يرعى النهج الليبرالي الاقتصادي وأنه أنتقد الحكومة مرارا في لقاءاته الخاصة لأنها تبحث عن الشعبية ولا تريد رفع الدعم مع أن ذلك يهدد الاقتصاد ويفاقم العجز.
نسي الرئيس ان غالبية وزرائه ينتقدونه وينتقدون سياسات الدولة في الصالونات الرسمية وفي لقاءاتهم المغلقة. نسي أن عددا كبيرا من أعضاء فريقه ليبراليون وأن وصف الليبرالي يعني أيضا تعددية, مواطنة, واحترام لحقوق الجميع. نسي أن الأردن مملكة تتبع نهج اقتصاد السوق, وليس بلدا منغلقا على نفسه وعلى العالم. نسي أن الاعتداد بالنفس والجرأة وعدم الخوف من قول كلمة الحق تبقى شمائل حميدة يفترض أن تتوفر في كل شخص يلتزم بأداء القسم الدستوري قبل تأدية الواجب. يقول إن الشريف شرف يتسم بالفردية ما كان سيدمر البنك المركزي, مع انه يعرف أن القانون الذي يحكم عمل المؤسسة لا يترك مجالا للتفرد في صنع القرار لأن أي قرار يصعد من القاعدة إلى القمة, ويحتاج لعشرات من التواقيع, وأن هناك مجلس إدارة يعرف عن كل شاردة ووارده.
بالطبع, الشريف فارس ليس معصوما من الخطأ فهو إنسان. وبالتأكيد لم تعجب جرأته ووضوحه وشجاعته الكثيرين. ولرئيس الوزراء الحق في تشجيع المحافظ على الاستقالة اذا شعر ان سياساته لا تنسجم مع الفريق الاقتصادي أو مع توجهات الحكومة كما حصل مع غيره. لكن كان عليه إدراك تداعيات المس بهذا المنصب على الاستقرار النقدي. وكان عليه تحضير الأرضية لتمرير هكذا قرار في الداخل والخارج, فالأردن ليس جمهورية موز.
الحكومة يجب ان تحاسب على تصرفها من البرلمان, الرأي العام والقصر ذلك أنها عمّقت الانطباعات الشعبية بأن حماية الفساد والفاسدين باتت أولوية الدولة. وللأسف لم يعرف أنه بتصرفه يطلق رصاصة رحمة على خطاب الإصلاح وعلى آخر مؤسسة مستقلة في عصر اللا شرف والانتهازية السياسية واستغلال المنصب العام.
العرب اليوم