غزة تختنق بأدخنة نفاياتها المحترقة
غزة – مضمون جديد - عزيز محمود
على قاعدة اهون الشرين، يلجأ سكان مدينة غزة الى اضرام النار في تلال النفايات التي تتراكم وسط احيائهم لاسابيع احيانا، مفضلين ادخنتها مع ما تنذر به من "موت بطئ"، على روائح تعفنها التي قد تحمل في طياتها اوبئة فتاكة.
وتقول بلدية المدينة، ان أزمة تراكم النفايات سببها تعطل عشرات الآليات وتوقفها عن العمل جراء نقص الوقود وقطع الغيار في ظل الحصار الذي تفرضه اسرائيل على القطاع.
كما تؤكد ان تشديد مصر اجراءاتها ضد انفاق التهريب التي تعد مصدراً رئيساً لتوريد الوقود قد اسهم في تفاقم المشكلة.
وتبدو المشكلة عامة في انحاء القطاع الذي يقطنه زهاء مليون و700 ألف نسمة، وينتج يوميا نحو 1600 طن من النفايات، منها 600 من مدينة غزة وحدها.
وحسب تقديرات رسمية، فان أقل من ثلث كمية النفايات فقط تذهب إلى مكبات النفايات الرئيسة الثلاث في قطاع غزة، والموجود أحدها في مدينة رفح أقصى الجنوب، والآخران في منطقتي دير البلح وجحر الديك وسط القطاع.
ويقول المواطن خليل مرزوق من سكان مدينة غزة ان أزمة تكدس النفايات تشهد تفاقما غير مسبوق بسبب عزوف البلديات عن أداء مهامها في إزالتها وترحيلها من المناطق السكنية.
ويضيف أن طواقم البلديات "تتأخر إذا لم تصل بالمطلق، عن نقل هذه الأكوام من القمامة إلى أماكن تجميعها"، مشيراً إلى أن "المواطنين لا يجدون بديلا عن حرقها، خشية من انتشار الأمراض، غير مبالين بأنه وبهذه العملية يتم نشر أمراض أخرى".
وفي المقابل، فقد انتقد مرزوق من "تركيز طواقم البلديات على النظافة العامة في عدد محدود الشوارع العامة والتجارية على حساب الفرعية والصغيرة ومناطق الكثافة السكانية في الاحياء"..
وكما يؤكد الخبراء، فإن الروائح النفاذة التي تنبعث من النفايات المنزلية المتراكمة والمكشوفة تكون ناجمة عن تعفنها بفعل الجراثيم والبكتيريا والطفيليات، إلى جانب اشتمالها على أبخرة مهيجة مشبعة بغازات سامة.
ويكمن الخطر المباشر حسب الخبراء في ان هذه الاكوام تشكل بيئة لتكاثر الحشرات والقوارض الناقلة للامراض لا سيما المتعلقة بالجهاز التنفسي ومنها الحساسية والربو والشري (الارتيكاريا) وسيلان الأنف فضلا عن امراض التهاب العين وغيرها.
كارثة محدقة
وفي الوقت الذي قد تشكل فيه عمليات الحرق حلا للتخلص من النفايات المتراكمة، الا ان التاثيرات الناجمة عن ذلك لا يمكن الاستهانة بها، بحسب ما يؤكده الخبير البيئي محسن حميد.
وقال حميد ان "الدخان الناتج عن حرق النفايات الصلبة له آثار سلبية على الجهاز التنفسي والعصبي والبصري للإنسان، وقد يؤثر على القدرة الإنجابية للإنسان، وتنجم عنه ولادة أجنة مشوهة، وزيادة نسب السرطانات".
واضاف ان هناك ايضا "التأثيرات الخطيرة التي تؤدي إلى زيادة نسب تلوث الهواء و التربة و المياه الجوفية".
واوضح حميد ان "حرق النفايات بما تشتمل عليه من مواد بلاستيكية اضافة الى عمليات الاحتراق غير الكاملة يؤدي الى تشكل مركبات سامه منها الدايوكسينات المكلورة والفيوران المكلور".
وتعد الدايوكسينات من أكثر المواد ثباتاً في البيئة، أي بمجرد تكونها تبقى للأبد ولا تتفكك لأن البكتريا لا تستطيع تحليله كما تفعل ببقية المواد في الطبيعة. وهي ينتقل الى الانسان بطرق منها الغذاء والتعرض المباشر لادخنة وابخرة النفايات المحترقة.
وقال حميد أن "الوضع البيئي والصحي السئ الذي يعاني منه قطاع غزة جراء انتشار ظاهرة حرق النفايات الصلبة وتكدسها في المناطق السكنية.. يشكل اضافة جديدة الى سلسلة الأوضاع غير الانسانية التي يعيشها سكان القطاع".
كما حذر من كوارث بيئية وصحية محدقة جراء "انتهاء العمر الافتراضي للمكبات الرئيسة الثلاثة في القطاع وامتلائها بأكثر من الحد الأقصى".
وقال ان ذلك "قد ينجم عنه تبعات خطيرة على مكونات البيئة الأساسية المياه والتربة والهواء، فضلاً عن تعريض الصحة العامة للمواطنين لمخاطر حقيقية".
موت بطيء
من جانبه، عبر مدير مؤسسة "الضمير" لحقوق الإنسان في قطاع غزة خليل أبو شمالة، عن قلقه من انتشار ظاهرة حرق النفايات، محذراً مما اسماه "ظاهرة الموت البطيء الناجم عن الملوثات البيئية الناجمة عنها".
وقال أبو شمالة لـ"مضمون جديد": إن مؤسسته "تتابع ببالغ القلق التداعيات البيئية والصحية الخطيرة الناجمة عن انتشار ظاهرة حرق النفايات الصلبة من قبل المواطنين.. سواء الموجودة في الحاويات..أو تلك الملقاة في الطرقات والأزقة في جميع أنحاء قطاع غزة".
واضاف ان مؤسسته وثقت انتشار هذه الظاهرة وممارستها من قبل المواطنين بشكل يومي خاصة أثناء فترات المساء، وذلك تفادياً للروائح الكريهة المنبعثة منها، وانتشار القوارض والبعوض الذي يتكاثر في أماكن تجميع النفايات.
كما رصدت ظهور بعض المكبات العشوائية في مناطق مختلفة من القطاع خلال الأسابيع السابقة أمام منازل المواطنين وفي بعض الشوارع والطرقات في إنحاء متفرقة من القطاع.
وحذر أبو شمالة من مخاطر مواصلة ممارسة حرق النفايات كطريقة للتخلص منها، مؤكداً أن كل من يقدم على ذلك "يزيد من الآثار السلبية للنفايات الصلبة على الصحة العامة وعلى مكونات البيئة".
حصار وصعوبات
من جهتها، ارجعت بلدية غزة اسباب تراكم النفايات الى أزمة الوقود وصعوبة الحصول على قطع غيار للاليات المتهالكة، وذلك في ظل الحصار الاسرائيلي وتشديد مصر اجراءاتها ضد عمليات التهريب عبر الانفاق الحدودية.
وقال انور الجندي، نائب مدير دائرة الصحة والبيئة والدراسات البيئية في بلدية غزة ان من بين الأسباب التي تدفع المواطنين إلى حرق النفايات، هو تأخر سيارات البلدية في نقلها الى المكبات الرئيسية جراء نقص الوقود.
واوضح الجندي ان "عشرات الآليات توقفت عن العمل بسبب نقص الوقود اللازم لتشغيلها والناتج عن التشديد الأمني المصري للاجراءات ضد الأنفاق الحدودية التي تعد مصدراً رئيسياً لتوريد الوقود للقطاع"،
ووصف المسؤول في البلدية ازمة النفايات بانها "كبيرة وتتفاقم بسبب أزمة الوقود.. بالإضافة للوضع الاقتصادي الصعب الذي يلقي مزيدا من الاعباء على البلديات".
وقال ان "إدارة النفايات الصلبة مكلفة جداً، والمشكلة تتفاقم في ظل الحصار وعدم إمكانية استيراد شاحنات جديدة للنفايات وصيانة بعض الشاحنات الموجودة بسبب عدم توفر قطاع الغيار".
وأشار الجندي إلى أن سلطات الاحتلال الاسرائيلي "سمحت مؤخراً وبعد عناء استمر سنوات بإدخال 12 آلية من مجمل 22 آلية لبلديات القطاع" لا تزال موجودة في مخازن بمدينة رام الله في الضفة الغربية،
الا انه قال ان ذلك ليس كفيلا بحل المشكلة في ظل ان "البلدية لم تتمكن من تحديث معداتها منذ 20 عاماً وتواجه خللا حادا في هذا الإطار".
واوضح ان "جميع المعدات لدينا الخاصة بجمع وترحيل النفايات متهالكة وانتهى عمرها الافتراضي منذ أعوام طويلة وهي بحاجة إلى صيانة شبه يومية ما يزيد من تعثر العمليات لجمع وترحيل النفايات".
وفي ضوء نقص الاليات، فقد غدا مالوفا مشاهدة عمال البلدية يقودون عربات تجرها الحمير لأداء عملهم.
ومن جهة أخرى، أكد الجندي أن البلدية تحارب ظاهرة حرق النفايات لما لها من أضرار على المواطنين صحياً ونفسياً أيضاً, قائلاً: "البلدية لديها قانون محاسبة وعقاب لكل شخص يلقى عليه القبض وهو يفتعل إحراق حاويات النفايات".
وشدد على أن أي مواطن يتم التبليغ عنه سيتم تحويله فوراً إلى محكمة البلدية, أما إذا كان الشخص هو عامل النظافة فسيكون عقابه شديد جداً وسيتخذ بحقه إجراءات قانونية وقد يفصل من الخدمة.
إستمع الآن