بنوك وشركات صرافة تتربح من قضم رواتب الغزيين في ظل ازمة السيولة

الرابط المختصر

غزة - محمود أبو الهنود - مضمون جديد

بمجرد أن تلقى محمد زاهر رسالة بنكية على جواله تفيد بإيداع راتبه الشهري في حسابه، توجه كعادته وعلى الفور الى الصراف الالي لاستلام الراتب تجنباً للوقوف ساعات طويلة على طوابير الانتظار.

محمد كان يحمل في طريقه الى البنك أمنيتين، الاولى ان يتمكن من استلام الراتب كاملاً بالشيكل، والثانية أن ينجو من أي حسومات ناتجة عن كفالته قرضا لزميله في العمل.

ويحصل كثيرا ان تقوم البنوك بصرف الرواتب بعملتي الدولار الاميركي والدينار الاردني، وليس بالشيكل الاسرائيلي الدارج في التعاملات التجارية اليومية للناس.
وتتذرع البنوك بانها تقوم بذلك بسبب نقص اوراق النقد لديها من عملة الشيكل.

لكن الموظفين، امثال محمد، يشكون من انهم يخسرون جزءا من رواتبهم المقدرة لهم بالشيكل، حين يجري تحويلها الى الدولار او الدينار، وذلك نتيجة فروق قيمة العملة.
وعلى ما يبدو فان الامنية الاولى لمحمد لم تتحقق حيث تسلم راتبه بالدينار والدولار.

اما الامنية الثانية، فقد تحققت، حيث لم تكن هناك حسومات متعلقة بكفالته لقرض زميله، ولو حصل ذلك فان خسارته ستكون مضاعفة، حيث ان البنك يحسم القسط بالدولار.

وفي محل للصرافة في غزة، دخل أبو عاهد (46 عاما) في شجار مع صاحب المحل الذي رفض ان يبدل له ورقة مائة شيكل مهترئة.

وكان صاحب المحل يبرر للرجل رفضه بعدم وجود ورقة بديلة أفضل منها بين رزمة العملات المختلفة التي في حوزته، والتي نال منها جميعا الاهتراء والتلف جراء التداول الاف المرات بين ايدي الناس ودون ان تكون هناك طريقة لاعادتها الى اسرائيل واستبدالها باخرى جديدة.

ومن جانبه، فان أبا عاهد قال لـ"مضمون جديد" بعد أن أفلح بعض المصلحين في تهدئته وإقناعه بأنه لا ذنب لصاحب المحل وان المشكلة عامة: "أخبروني إذاً على من الذنب؟ .. هذه عملة تالفة ولن أقبلها".
أزمة سيولة

الحل الجذري للمشكلة، وكما يؤكد شادي السقا مدير مكتب البرعصي للصرافة والحوالات المالية في منطقة الرمال بغزة، هو في ان يكون للفلسطينيين عملتهم الخاصة بهم كباقي شعوب العالم.

يقول السقا انه يجب ان يجري العمل على إصدار العملة الفلسطينية "الجنيه" لكي يتم التغلب على المشكلات الناتجة عن عدم توفر الشيكل المتداول بشكل رسمي بين المواطنين بشكل كاف، وللحد من عمليات تزوير العملة التي اشار الى انها تزايدت مؤخراً خصوصاً لفئة العملة المعدنية (الفكة).

وتعاني بعض مناطق السلطة الفلسطينية، وخاصة قطاع غزة، من أزمة في السيولة زادت حدتها خلال السنوات الخمس الماضية بفعل الحصار الذي تفرضه اسرائيل الى جانب تحكمها بتحويل الاموال الى القطاع.

وقد أثر ذلك في مختلف الجوانب الحياتية للفلسطينيين، وبخاصة لجهة تأخر صرف الرواتب المحددة بالشيكل، والتي اصبحت تستبدل بالدينار والدولار في أحيان كثيرة، بالإضافة الى أزمة الفكة التي غدت مشكلة عامة .

وتبرز معاناة المواطنين الفلسطينيين الناتجة عن عدم وجود عملة فلسطينية بفعل الاحتلال بشكل خاص عند حلول موعد صرف رواتب الموظفين الحكوميين البالغ عددهم نحو 160 الفا منهم أكثر من 50 الفا في قطاع غزة.

والشهر الماضي، ايلول/سبتمبر، قامت جميع البنوك الفلسطينية بصرف رواتب الموظفين في قطاع غزة بعملتي الدينار والدولار، وهو ما أثار استياء الموظفين ووضع البنوك في موقف محرج معهم.
استغلال وتلاعب

من جهتها، فقد اتهمت نقابة العاملين في الوظيفة العمومية في قطاع غزة البنوك باستغلال الموظفين عبر صرف الرواتب بعملات اخرى غير الشيكل بحجة عدم توفر اوراق النقد الاسرائيلية لديها.

وقالت النقابة في بيان اصدرته مؤخرا ان قيام البنوك بصرف الرواتب بالدينار أو الدولار, وحجب الشيكل عنهم تحت حجة أزمة السيولة, هو بمثابة "استغلال لمكاسب شخصية وتلاعب في لقمة عيش الموظفين المقهورين".

واضافت ان ذلك يشكل ايضا ظلما كبيرا وتعديا على حقوق الموظفين.

وتتراوح خسارة الموظف في كل 100 دولار من راتبه بما بين 15- 20 شيكلا عند تحويل الراتب الى الدينار او الدولار.

ولا يقف الامر عند الموظفين الحكوميين، فالتجار ايضا تضرروا بشكل كبير من الازمات المتتالية للسيولة النقدية في الاسواق والبنوك.

وقد اعتبر ماهر الطباع مدير العلاقات العامة بالغرفة التجارية بمحافظات غزة ان تبادل الأدوار في اختفاء العملة بين الدولار والشيكل والدينار, أدى إلى تذبذب أسعار صرف العملة واختلافها عن الأسعار الرسمية فتارة هي منخفضة وتارة تجدها مرتفعة وذلك بحسب توفر السيولة في الأسواق.

وفي ما تبدو خطوة مبشرة، فقد وقعت سلطة النقد الفلسطينية في ايلول/سبتمبر على اتفاقية الانضمام الى برنامج البنوك المركزية التابع للبنك الدولي، والتي تتيح لها البدء في الاعداد لاصدار العملة الفلسطينية الوطنية "الجنيه".

وقد اعلن جهاد الوزير محافظ سلطة النقد الفلسطينية على هامش احتفال توقيع الاتفاقية، الانتهاء من إعداد مسودة قانون البنك المركزي الجديد، والذي سيمنح سلطه النقد المزيد من الاستقلالية للقيام بمهامها، ومن ضمنها إصدار عمله فلسطينية.

واضاف ان أن العملة الفلسطينية القادمة ستحمل اسم "الجنيه الفلسطيني الجديد"، للتأكيد على الربط التاريخي مع الجنيه الفلسطيني الذي توقف تداوله ما بعد النكبة.

ومنذ بدء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في العام 1948م، لم يعد من خيار أمام الفلسطينيين سوى تداول العملات الموجودة انذاك، بعد ان حرموا من عملتهم التاريخية التي صدرت عن "مجلس فلسطين للنقد" الذي كان تابعاً لوزارة المستعمرات البريطانية.

وخلال الاعوام ما بين 1927 و1948، كان الجنيه الفلسطيني هو العملة الرسمية في مناطق الانتداب البريطاني على فلسطين وإمارة شرق الاردن، وكان مساويا في قيمته للجنيه الإسترليني.

ومنذ مطلع الخمسينيات اصبح الشيكل الإسرائيلي العملة الأساسية بعد أن أقامت إسرائيل بنكا مركزيا ًو أصدرت الليرة الإسرائيلية بدلا من الجنيه الفلسطيني.
مهمة صعبة

لكن إعادة إصدار الجنيه الفلسطيني ليس بالخطوة السهلة من وجهة نظر نعيم حرزالله مدير فرع الرمال بشركة حرزالله للصرافة والحوالات المالية.

فكما يقول حرز الله، فان من الصعب أن يلقى الجنيه نجاحاً وقبولاً لدى المواطنين في ظل عدم توفر موارد حقيقية تكسبه قوة في السوق المالي،

ويضيف أن إصدار الجنيه الفلسطيني والتعامل به في السوق المالي الفلسطيني والدولي يحتاج إلى واقع سياسي مختلف تماماً عن الوضع الحالي، ينال فيه الفلسطينيون استقلالهم الاقتصادي والسياسي.

من جهته شدد إبراهيم عوض رئيس قسم الاقتصاد بجامعة "القدس- أبو ديس" في حديث لـ"مضمون جديد" على اهمية تحرر الاقتصاد الفلسطيني وإنهاء إرتباطه بالاقتصاد الإسرائيلي، قبل الإقدام على أي خطوة تتعلق بإصدار العملة الفلسطينية "الجنيه".

واضاف ان هذه الخطوة تتطلب ايضا العمل على خلق اقتصاد قادر وقوي ويمكنه الاعتماد على نفسه حتى يمكن تحقيق استقلالية القرار الاقتصادي الفلسطيني خصوصاً فيما يتعلق بإصدار الجنيه الذي لن يستطيع الصمود دون وجود مقومات اقتصادية تدعم بقاءه واستمرا يته.

وتساءل عوض "كيف يمكن اصدار الجنيه الفلسطيني واسرائيل تتحكم بكل مقومات الاقتصاد الفلسطيني سواء كان ذلك في السيطرة على المعابر والحدود وتمنع إعطاء الفلسطينيين حقهم في إنشاء المطارات والموانيء الدولية".

وفي هذا السياق، فقد دعا عوض الى تعديل بروتوكول باريس الموقع بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1994، والذي ينظم العلاقة الاقتصادية بينهما.

وجرى توقيع البروتوكول على هامش اتفاقيات اوسلو للسلام التي ولدت على اثرها السلطة الفلسطينية ككيان انتقالي.

وتضمن البروتوكول بنودا تحد بشكل كبير من الاستيراد المباشر من أسواق غير إسرائيل، إلى جانب آلية تقوم إسرائيل بموجبها بجباية الضرائب والجمارك للسلطة الوطنية الفلسطينية، وآلية لتسوية ضريبة القيمة المضافة، واتفاقاً للسماح للأيدي العاملة الفلسطينية بالعمل داخل إسرائيل،

وكما يرى عوض، فان بروتوكول باريس تضمن اخطاء عديدة يجب العمل على تعديلها بما يضمن انفتاح الاقتصاد الفلسطيني على العالم وإزالة المعوقات الإسرائيلية التي كانت السبب الأساسي والرئيسي في عدم استقلال اقتصاد الفلسطينيين .
تبعية اقتصادية

وعلى صعيده، فقد اتهم محمد مصطفى، مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الاقتصادية ورئيس صندوق الاستثمار إسرائيل بانها بدأت منذ العام 2000 باستخدام مجموعة من القيود والسياسات العدائية التي ألحقت ضرراً كبيراً بالاقتصاد الفلسطيني.

وقال في تصريحات منشورة، ان محصلة هذه الإجراءات كانت نشوء علاقة تجارية غير متكافئة منعت تطور الاقتصاد الفلسطيني بشكل يعكس إمكانياته الكاملة، بل وجعلت منه معتمداً على الاقتصاد الإسرائيلي.

وقال مصطفى أن السلطة الوطنية وافقت على بروتوكول باريس بشروطه المجحفة جدا بحق الفلسطينيين، على اعتبار أنه ترتيب مؤقت لحين الانتهاء من المفاوضات السياسية في غضون 5 سنوات، إلا أنه أصبح لأجل غير مسمى.

ونبه إلى أن استمرار السيطرة الإسرائيلية على الحدود الفلسطينية والموارد الطبيعية والشؤون التجارية، وعلى السياسات النقدية والضريبية بحجة أنها مشمولة في بروتوكول باريس، يحول دون تحقيق الرؤية الاقتصادية للفلسطينيين.

وشدد على ان ذلك كان سبباً في دعوة الرئيس الفلسطيني إلى تغيير بروتوكول باريس في مجمله، واعتماد إطار اقتصادي جديد يفضي الى الاستقلال الكامل والراسخ للاقتصاد الفلسطيني كجزء لا يتجزأ من خارطة الطريق الفلسطينية نحو إقامة دولة مستقلة قابلة للحياة.

الى ذلك، فقد اعتبر على الحايك رئيس مجلس إدارة جمعية رجال الأعمال الفلسطينيين في قطاع غزة أن المشكلة لا تكمن في اصدار الجنيه الذي هو أمنية جميع الفلسطينيين إنما في حصول الفلسطينيين على استقلالهم الاقتصادي والسياسي وإنهاء تبعية اقتصادهم للاقتصاد الإسرائيلي.

وقال لـ"مضمون جديد" ان اتفاقية باريس ادت إلى " تكبيل أيادي السلطة الفلسطينية"، وأسهمت في عدم نمو الاقتصاد الفلسطيني واستقلاليته خصوصاً في قضايا الاستيراد والتصدير، مشيراً إلى أن اعلان استقلال دولة فلسطين سياسياً واقتصادياً يجب أن يسبق إصدار عملتها الرسمية وليس العكس.