عمّان - امال العطاونة - مضمون جديد
كان الليل قد شارف على الانتصاف عندما فزع سكان الجبل الابيض في الزرقاء من نومهم على هدير كقصف الرعد اطلقته سيارة وضع السائق على عادمها مضخم صوت.
ومع ابتعاد السيارة كان الهدير يتلاشى رويدا وينجلي عن صراخ هستيري لطفل في احد منازل الحي التي كانت نوافذها مشرعة طلبا لبعض النسائم في تلك الليلة الحارة من تموز الماضي.
الطفل كان يزن ذو السنتين، الذي يقول والده فارس عبدالمغني ان صراخه تواصل لساعات ولم يفلح في تهدئته سوى طبيب الطوارئ في احد مستشفيات المدينة.
ويضيف فارس ان طبيبا مختصا عاين يزن نهار اليوم التالي وابلغه ان ما اعترى ابنه كان نوبة فزع سببها الصوت القوي والمفاجئ لتلك السيارة.
وزاد الطبيب ان ازالة الاثار النفسية لهذه النوبة قد تتطلب الكثير من الصبر والجهد، وربما السنوات.
ويقول فارس بمرارة "نصحني الطبيب، ولكن بعد الفوات، بنقل سرير يزن الى غرفة بعيدة عن الشارع حتى اجنبه نوبة اخرى قد يسببها السائقون المستهترون الذين يهيمنون على شوارع المدينة بعد ان تخلو لهم ليلا".
ويضيف ان "هؤلاء السائقين الذين تزايدت اعدادهم بشكل غير مسبوق في الاونة الاخيرة باتوا يحرموننا النوم بسبب سياراتهم المزودة بمضخمات العوادم (الاكزوزت) والمسجلات وبالزوامير ذات الاصوات الغريبة والقوية".
ولا تعني الشكوى من هذه المشكلة ليلا انها تختفي نهارا، وانما هي تبدو اقل وضوحا من حيث انها تتوارى وسط بحر هادر من ضجيج مكبرات الصوت الملحقة بسيارات بيع الغاز والخضار والخردة والمنظفات وغيرها.
مخاطر وتحذيرات
ويحذر مختصون من ان للاصوات المرتفعة وخصوصا المفاجئة انعكاسات لا يستهان بها على الصحة وقد تصل احيانا الى حد التسبب بالموت.
وتندرج الاصوات المرتفعة ضمن ما يعرف بالتلوث الضوضائي الذي يعد ثاني اخطر انواع الملوثات للبيئة.
وهي تنقسم حسب مصدرها الى نوعين: مستمرة ومتقطعة. وتعد الثانية أخطر من الاولى اذا ما كانت مفاجئة.
وبعدد الطبيب محمود الاسعد، وهو ناشط بارز في حملة لمكافحة الضوضاء انطلقت في الاردن العام الماضي، بعض تاثيرات هذا النوع من التلوث على صحة الانسان.
ويقول ان منها "الاصابة بارتفاع ضغط الدم ومشاكل القلب كاضطراب النبض والاضطرابات الوعائية، والتوتر العصبي واضطرابات النوم والقلق والإرهاق".
ويضيف الاسعد، وهو اختصاصي جراحة انف واذن وحنجرة، تاثيرات اخرى كالإضطرابات العصبية والصداع وفقدان الشهية وفقدان التركيز.
ويشير مختصون الى أن الاصوات العالية والمفاجئة قد تتلف مخ الجنين ونخاعه الشوكي، كما انها تتسبب بتدفق الأدرينالين الذي يقلص الأوعية الدموية ويحرم الاجنة من الاوكسجين.
كما ذهب بعضهم الى انها قد تؤدي إلى الوفاة اختناقاً بالنسبة لمرضى القلب والقولون العصبي.
ويزيدون انها ربما تؤدي الى الانهيار العصبي والجنون المفاجئ عند الاشخاص الذين لديهم استعداد للإصابة بمرض نفسي أو عقلي، باعتبارها عاملاً معجلا في إنضاج المرض.
وكما يوضح الاسعد، فان "مستوى الصوت المعتاد لا يزيد على 30 ديسبل (وهي وحدة قياس الصوت)، وان المستوى المسبب للضوضاء يزيد على 45".
ويبين الاسعد ان الإحساس بالسمع يبدأ عند 20 ديسيل حتى أعلى قيمة تتحملها الأذن وهي 130 ديسبل، وما فوق ذلك فانه يسبب الألم وربما فقدان السمع الذي قد يكون مؤقتا او دائما.
وتتراوح شدة صوت عادم ومسجل سيارة مزودين بجهاز مضخم بين 120 و130 ديسبل، وتبلغ نحو 125 ديسبل في بعض انواع الزوامير.
ويشير الاسعد الى ان مستويات الصوت المقبولة عالميا هي 25 - 40 ديسبل في المناطق السكنية، و30 -60 في المناطق التجارية، و40- 60 في المناطق الصناعية و30 -40 في المناطق التعليمية و20 -35 في مناطق المستشفيات.
لا مبالاة
يتحدث مراد. م وهو في الثالثة والعشرين من عمره بفخر عن مضخم الصوت، او الهدرز، الذي ركبه على عادم سيارته الافانتي التي اشتراها العام الماضي ولا يزال يدفع اقساطها.
ويقول مراد الذي قرر شراء السيارة بعد شهر من تسلمه وظيفته في احدى الشركات الخاصة، ان الهدرز كلفه نحو 40 دينارا "ويستحق كل قرش" دفعه ثمنا له.
ويضيف الشاب الذي ثبت نظارته السوداء عند مقدمة راسه وغاص قسم منها بين ثنايا شعره المسرح بلا انتظام، ان "صوت الهدرز اثناء القيادة يجعل الحياة تتدفق وتغلي في عروقي ويشعرني بالحرية والانطلاق".
وبعبارات حاسمة يعتبر مراد ان "من يتذمر من صوت الهدرز لا يقدر معنى الحياة وان كان له اعتراض فليذهب الى الشرطة او ليسد اذنيه".
ويشرح صاحب محل لبيع قطع واكسسوارات السيارات فضل عدم ذكر اسمه طبيعة الهدرز قائلا انه جهاز يركب مكان برميل العادم والانبوب الممتد منه الى خلف السيارة بعد ازالتهما، واحيانا يمتد حتى راس المحرك.
وليس للهدرز وظيفة سوى تضخيم الصوت لجعل السيارة تبدو وكانها سيارة سباق، كما يوضح صاحب المحل الذي قال انه يبيع انواعا مختلفة منه ولم يسبق لاي جهة ان حررت مخالفة بحقه رغم ان هذا الجهاز ممنوع.
واضاف البائع ان تجارة الهدرز باتت مجزية في ظل تهافت الشباب على هذه "الموضة".
شاب اخر هو أمجد ع، زود سيارته وهي ايضا من نوع افانتي، بنظام مضخم صوت للمسجل "سيستم"، كلفه 250 دينارا كما يقول.
وامجد قريب من عمر مراد، وهو ايضا موظف شركة خاصة، ولكنه يملك السيارة التي اشتراها له ابوه منذ كان طالبا في الجامعة. والسيستم بالنسبة له "اهم من السيارة نفسها، فبدونه لا يكون هناك طعم للقيادة".
وحال مراد، يجاهر امجد بلا مبالاته بمن يزعجه الضجيج الصادر من سيستم سيارته، ويقول "هذه سيارتي وانا حر في ما افعله داخلها، ومن كان الامر يزعجه فماذا عساني افعل له..يصطفل".
وقد زاد امجد بان اسمعنا زامور سيارته "الفايع" ذي الخمس دفعات، بمعنى ان كبسة واحدة على زره تجعله يطلق خمس نغمات متلاحقة، وليس واحدة كما هو الحال مع الزوامير المألوفة.
ثم قال مبتسما انه ركب هذا الزامور حديثا بعدما قرر ان يرحم الناس من زامور الهواء السابق الذي يركب عادة في الشاحنات الكبيرة.
واسعار الزوامير التي يقبل عليها الشبان امثال امجد تتراوح بين 20 و30 دينارا، ولها تسميات مثل الطاط والبيانو والدرج وغيرها.
اثبات وجود!
دوافع مثل هؤلاء الشبان لتزويد سياراتهم بهذه الاجهزة لم تجد لها تفسيرا من قبل دائرة السيرة التي بدأت حملة على الهدرز تحديدا في اب الماضي، سوى انها تاتي من باب "اثبات الوجود".
وقال مدير ادارة السير المركزية العميد جمال البدور في بيان اطلاق الحملة ان الهدف من قيام بعض "السواقين المستهترين" بتركيب الهدرز هو "لفت انتباه المارة لهم أثناء المسير بالمركبة كنوع من اثبات الوجود غير المبرر".
وبحسب ما اعلنته دائرة السيرة، فان الحملة يجري تنظيمها على مرحلتين الاولى تستمر عشرة ايام وتتضمن جانبا توعويا لمكافحة ظاهرة الهدرز "التي تشكل ازعاجاً واقلاقاً للراحة العامة إضافة إلى ما لها من آثار سلبية من الناحية البيئية والمرورية".
اما المرحلة الثانية، والتي تتلو الاولى مباشرة فتتضمن حملة شاملة للتفتيش على المركبات المخالفة وضبطها باستخدام أجهزة فحص خاصة.
واكدت ادارة السير انه سيتم في اطار هذه الحملة "تفعيل قانون السير فيما يتعلق بهذه المخالفة وضبط كل من يقوم بها واتخاذ الإجراء القانوني المنصوص عليه وفق احكام" قانون السير.
وينص الاجراء حسب القانون على ان "تحجز رخصة المركبة وتحال إلى إدارة الترخيص..على أن تسلم لمالكها بعد تصويب أوضاع المركبة وتسديد قيمة الغرامات المترتبة على مخالفات السير واستيفاء الرسوم واي مبالغ مستحقة".
وتتضمن عقوبة هذه المخالفة "الحبس مدة لا تقل عن أسبوع ولا تزيد على شهر أو بغرامة لا تقل عن (50) خمسين ديناراً ولا تزيد على (100) مائة دينار".
كما نص القانون على عقوبة قدرها عشرون دينارا لمخالفتي: "استعمال أجهزة التسجيلات الصوتية داخل المركبة بشكل يتنافى والأخلاق العامة أو يسبب الضوضاء والإزعاج"، و"استعمال المنبه أو النغمات الموسيقية أو مكبرات الصوت بصورة مزعجة".
واجاز القانون "لإدارة الترخيص مصادرة اجهزة التنبيه ( الصوتية او الضوئية ) او ما يشابهها من الأجهزة غير المصرح بها"، ودون ان يجعل ذلك ملزما كما هو واضح.
وتعد الحملة على الهدرز ثمرة لتعاون بين الامن العام وعدد من الهيئات الاهلية ضمن "مشروع التوعية بمخاطر التلوث الضوضائي".
ويهدف المشروع كما توضح هانيا قاقيش التي ترأس لجنة العمل المنبثقة عنه، الى التوعية المستمرة للحد من ظاهرة التلوث الضوضائي، ونشر اساليب الوقاية والدعوة الى تطبيق اسس ومعايير التصاميم الانشائية للحد من اثار هذه الظاهرة.
ولجهته، فقد اعتبرالناشط البارز في المشروع الطبيب محمود الاسعد، ان مواجهة الملوثات الضوضائية تعد تحديا كبيرا وتتطلب تضافرا للجهود بين الجهات الرسمية والمواطنين.
واقترح في هذا الصدد تاسيس جمعية اهلية على غرار جمعية اصدقاء الشرطة، تاخذ على عاتقها العمل بالتنسيق مع الجهات الرسمية على تاهيل متطوعين في الاحياء ليصبحوا اعوانا لجهات انفاذ القانون تكون احدى واجباتهم الابلاغ عن مصادر التلوث الضوضائي.