هدر الغذاء في الأردن..الأسر المصدر الأكبر وخسائر بالمليارات تهدد الأمن الغذائي

الرابط المختصر

رغم الضغوط الاقتصادية وارتفاع كلف المعيشة، لا يزال هدر الغذاء يشكل واحدة من أكثر الظواهر استنزافا للموارد في الأردن، سواء على مستوى الأسر أو المؤسسات، وسط تساؤلات حول جدية كفاءة أنماط الاستهلاك، وجدوى السياسات الغذائية، وأثر ذلك على الأمن الغذائي الوطني.

وفي خطوة يصفها خبراء في مجال الاقتصاد، أطلقت وزارة الزراعة مؤخرا ثلاث دراسات وطنية هي الأولى من نوعها لقياس حجم هدر الغذاء في المملكة، مقدمة أرقاما دقيقة حول الفاقد الغذائي في قطاعات المنازل والمطاعم والفنادق والمستشفيات، بالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي ودائرة الإحصاءات العامة.

بحسب نتائج الدراسات تعد الأسر والقطاع المنزلي المصدر الأكبر من حيث كميات الهدر، إذ يبلغ معدل الهدر السنوي للفرد في الأردن يبلغ نحو 81.3 كيلوغراما، مع تسجيل أعلى المعدلات في محافظة الزرقاء وأدناها في عجلون. 

وفي القطاعات الأخرى،  تظهر دراسة شملت 896 مطعما أن حجم الهدر بلغ نحو 12,291 طنا، تركز معظمها في مرحلتي التجهيز والإعداد، كما سجل قطاع الفنادق هدرا يقدر بنحو 3,739 طنا خلال عام 2024، توزعت على الخضراوات بنسبة 29%، والقمح ومنتجاته بنسبة 13.2%، والأرز بنسبة 13.1%، أما المستشفيات، فقد بلغ حجم الطعام المهدور فيها قرابة 1,302 طن سنويا.

 

المنازل في صدارة الهدر

ويرى الخبير الاقتصادي والاجتماعي حسام عايش أن تصدر المنازل لقائمة الهدر أمر متوقع بحكم العدد وطبيعة الاستهلاك اليومي، لكنه يشدد على أن ذلك لا يبرر الظاهرة، ولا يعفي المؤسسات الأخرى من مسؤوليتها، مثل المطاعم والفنادق والمولات والسوبرماركتات.

ويرجع عايش جزءا كبيرا من المشكلة إلى سلوكيات استهلاكية خاطئة، أبرزها الشراء بكميات تفوق الحاجة الفعلية، وسوء التخزين المنزلي، وعدم ملاءمة طرق حفظ الطعام بعد الطهي، إضافة إلى عادات اجتماعية راسخة تقوم على المبالغة في تقديم الطعام، لا سيما في المناسبات الاجتماعية وشهر رمضان.

ويضيف أن شهر الصيام، الذي يفترض أن يكون موسما للترشيد، يتحول في كثير من الأحيان إلى شهر للهدر، نتيجة تنويع وكثرة الأطعمة، وتحويل إعداد الطعام إلى وسيلة لتمضية الوقت بانتظار الإفطار، ما يخلف فائضا كبيرا لا يستهلك.

كما يلفت إلى بعد اقتصادي آخر، يتمثل في تراجع القدرة الشرائية للأسر، مما يدفع البعض إلى شراء منتجات أقل جودة أو قريبة من انتهاء الصلاحية، سواء من المعلبات أو الخضار والفواكه، والتي تتلف سريعا إذا لم تستخدم فورا.

 

 

أرقام صادمة: أكثر من ملياري دينار سنويا

ويقدر متوسط هدر الغذاء بنحو 81.3 كيلوغراما للفرد سنويا، بحسب عايش الذي يوضح أنه إذا افترضنا أن سعر الكيلوغرام الواحد يتراوح بين دينارين إلى 2.5 دولار، فإن حجم الهدر يصبح هائلا، ومع عدد سكان الأردن الذي يناهز 11.9 مليون نسمة، فإن قيمة الهدر الغذائي تتجاوز 2 إلى 2.2 مليار دينار سنويا. 

ويشير إلى أن ما لا يقل عن ربع المواد الغذائية المتداولة في السوق الأردني يتم هدره، وهو رقم كبير جدا مقارنة بالظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وكان من الممكن أن يساهم في تأمين الغذاء للفئات الفقيرة ومحدودي الدخل، بل وحتى توفيره مجانًا لهم.

وتظهر الدراسات تفاوتا واضحا في نسب هدر الغذاء بين المحافظات، حيث تسجل محافظات مثل عمان والزرقاء أعلى المعدلات، مقابل محافظات مثل عجلون التي تسجل نسبا أقل، ويعزو عايش ذلك إلى الكثافة السكانية، وأنماط الاستهلاك، والاعتماد على المنتجات الزراعية المحلية، إضافة إلى مستويات الدخل وظروف السكن.

في مواجهة هذه الواقع، برزت مبادرات وطنية تسهم في حفظ النعمة، من بينها بنك الطعام الأردني، وتكية أم علي، ودار أبو عبدالله، إلى جانب مبادرات أهلية وخيرية تعيد توزيع فائض الطعام، لا سيما من المطاعم والفنادق.

ويرى عايش أن هذه المبادرات تمثل نموذجا إيجابيا لإعادة تدوير الفائض الغذائي، لكنها لا تكفي وحدها، مؤكدا أن الحل الجذري يكمن في تقليل الهدر من المصدر، عبر تحسين إدارة سلاسل الإمداد الغذائي، من الزراعة إلى التخزين والتصنيع والنقل، وصولًا إلى أنماط الاستهلاك.

ومن بين هذه الجهود، يبرز مشروع حفظ النعمة الذي أطلقته جمعية بسمة الحياة الخيرية، ويعمل على جمع فائض الطعام الصالح من الفنادق وإعادة توزيعه على الأسر المحتاجة.

ويوضح مدير التطوير المؤسسي في الجمعية، معاذ البيك، أن المشروع، الذي يستند إلى خبرة تمتد لأكثر من 16 عاما في العمل الإنساني، يعد من أكبر مشاريع الجمعية الاستراتيجية، إذ يتيح توفير نحو 4000 وجبة مقابل 1000 دينار فقط، من خلال إعادة تعبئة وتغليف الطعام بدلا من إعداد وجبات جديدة.

وتتعاون الجمعية حاليا مع 6 فنادق خمس نجوم من أصل 25 في عمان، إضافة إلى دعم من شركات ومؤسسات اقتصادية ورجال أعمال.

 

الأمن الغذائي… قضية سيادية

ويحذر عايش من أن هدر الغذاء لا ينعكس فقط على الاقتصاد، بل يمس جوهر الأمن الغذائي، الذي يعد أحد أعمدة الأمن الوطني، خاصة في ظل الأزمات والكوارث والاضطرابات الإقليمية، مشيرا إلى أن جائحة كورونا كشفت امتلاك الأردن بنية تحتية غذائية قابلة للتطوير، بعدما نجح في الحفاظ على استمرارية سلاسل الإمداد، مما يشكل نقطة انطلاق لتعزيز منظومة غذائية أكثر استدامة.

من جهته، يؤكد أمين عام وزارة الزراعة محمد الحياري أن هذه الدراسات تمثل محطة فارقة في مسار تعزيز الأمن الغذائي، إذ تنقل صنع القرار من التقديرات العامة إلى التخطيط القائم على الأدلة، وتساعد في توجيه الاستثمارات نحو حلول عملية تقلل من الهدر وآثاره الاقتصادية والبيئية.

ويشير الحياري إلى الدور الفني والتقني لبرنامج الأغذية العالمي في إنجاز الدراسات وفق أفضل المعايير الدولية، ودعمه لجهود بناء نظم غذائية أكثر مرونة واستدامة.

بدوره، يؤكد مدير دائرة الإحصاءات العامة أن النتائج ستدمج ضمن النظام الإحصائي الوطني لتكون مرجعا رسميا لصناع القرار والباحثين، فيما اعتبرت الممثلة المقيمة لبرنامج الأغذية العالمي في الأردن أنتونيلا دابريل أن إطلاق أول أرقام رسمية حول هدر الغذاء يعد إنجازا بارزا، يسهم في سد فجوة معلوماتية طال انتظارها، ويمهد الطريق لتدخلات أكثر فاعلية وحسن إدارة للموارد المحدودة.