العربيات العاملات في اسرائيل.."نخاسة" ذوي القربى اشد مضاضة!
عرب (48) – روزين عودة – أُعد هذا التقرير لصالح مشروع مضمون جديد للصحفيين
كانت قد انقضت نحو ساعة منذ انطلاق الحافلة من الناصرة، عندما بدأت الشمس تبزغ من وراء الافق وترسل اشعتها عبر النوافذ لتسقط مسترخية على وجوه العاملات اللائي راح بعضهن يرقب لا شئ في البعيد بعيون مجهدة فقدت بريقها.
وفي الجهة البعيدة عن الشمس، كانت هناك عاملات القين برؤوسهن على المساند واستسلمن لاغفاءة يعلمن في قرارتهن ان لذتها لن تلبث ان تتبدد لتحل مكانها مرارة يوم طويل اخر من "الاستعباد" في المصنع الذي سيستغرق وصوله ساعة اخرى.
كانت الاجواء في الحافلة كئيبة ورتيبة كرتابة هدير محركها، ولم يكن يقطعها في ذلك اليوم سوى حديث هامس دار بيننا وبين عاملة شابة جلسنا معها مباشرة خلف السائق الفضولي الذي راح يسترق النظر عبر المرآة.
لم يكن بمقدور السائق استيضاح حديثنا، لكن العبارات المنفلتة منه الى اذنه كانت تنبئه بمشاعر تبرم وسخط الشابة من اوضاع العمل.
العاملة "ع" طلبت ان لا نذكر اسمها صراحة، لان من شأن ذلك ان يفقدها عملها الذي حصلت عليه بشق الانفس وبعد تنازلها عن الكثير من حقوقها، وليس اقلها الاجر الذي لا يكاد يتجاوز نصف اجر العاملة اليهودية.
ومسالة الحصول على العمل بالنسبة للعربيات في اسرائيل ليست سهلة ابدا في ظل العنصرية الرسمية الممنهجة ضد العرب عموما، فضلا عن البطالة المستفحلة في صفوفهم، وما يتبعها من ارتفاع لمعدلات الفقر.
وبحسب احدث تقرير لجمعية "سيكوي" الحقوقية الاسرائيلية، فان نسبة البطالة بين النساء العربيات القادرات على العمل تتجاوز 80 بالمئة، في مقابل 44 بالمئة لليهوديات.
ويبلغ عدد النساء العربيات القادرات على العمل في اسرائيل نحو 350 الفا.
وارجع تقرير سيكوي لارتفاع في نسبة البطالة هذه الى حرمان المدن والقرى العربية من أماكن العمل والمناطق الصناعية والتشغيلية والمؤسسات الرسمية والعامة.
ويشكل العرب ما نسبته 21 بالمئة من السكان في اسرائيل الذين يناهز عددهم سبعة ملايين. وتبلغ نسبة البطالة بين العرب عموما (ذكورا واناثا) اكثر من 17 بالمئة، مقابل 6,6 بالمئة لليهود.
ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فان هذه البطالة المرتفعة اسهمت في زيادة نسبة العرب الذين يعيشون تحت خط الفقر في إسرائيل الى 47.6 بالمائة.
تجربة فظيعة
في الحافلة، راحت "ع" تحدثنا عن تجربتها المريرة مع المصانع والمقاولين العرب، منذ اضطرارها الى دخول سوق العمل عندما كانت في السابعة عشرة بهدف مساندة عائلتها بعد وفاة والدها.
والمصنع الذي كنا متجهين اليه هو الثالث الذي تعمل فيه "ع". وقبله كانت قد عملت في مصنعين اخرين ذاقت فيهما الامرين على يد صاحبيهما اليهوديين، وكذلك على يد مقاولين من ابناء جلدتها العرب اللذين تعاملا معها ومع الاف النساء المحتاجات للعمل بمنطق لا اقل من ان يوصف بالنخاسة.
ويبدو من شبه المستحيل بالنسبة للعربيات الحصول على عمل في اسرائيل دون المرور عبر قناة المقاولين، سواء كانوا افرادا او شركات للقوى البشرية.
ويقوم المقاول بمهمة تجنيد العمال نيابة عن المصنع، ويتقاضى لقاء ذلك من المصنع مبلغاً متفقا عليه عن كل عاملة بحسب الساعات التي تعملها، وهو حسب القانون ملزم بأن يوصل العاملات من والى بيوتهن.
وفيما تقوم بعض المصانع بنقد العاملات اجورهن مباشرة، الا ان معظمها يوكل هذه المهمة ايضا الى المقاولين الذين يقوم بعضهم باقتطاع جزء من الاجور قبل تسليمها الى العاملات.
وهم اذذاك يجبرون العاملات على توقيع قسائم تظهر تقاضيهن اجورهن كاملة حسب قانون الحد الادنى للاجور، تحت طائل طرد من ترفض التوقيع.
وبالعودة الى "ع"، فهي تصف تجربتها في المصنعين اللذين عملت فيهما سابقا بانها "فظيعة، سيئة حتى أبعد مدى ممكن لأي إنسان أن يتصوره".
وتضيف "المصنع الاول الذي كان يبعد ساعتي سفر عن الناصرة، وحصلت على العمل فيه عن طريق مقاول قال أنه سيعطيني 150 شاقلاً في اليوم الواحد (حوالي 44 دولارا). كنت سأطير من الفرحة عندما سمعت ذلك، فأي فتاة في عمري كانت ستحلم بهذا المبلغ، لكن لاحقاً اكتشفت أنه يعطيني اقل من ذلك بكثير".
ويبلغ الحد الادنى للاجور في اسرائيل نحو 160 شاقلا يوميا (حوالي 46 دولارا)، وكانت "ع" توقع على قسيمة الاستلام الشهرية للراتب على اساس انها استلمت هذا المبلغ، وانها عملت ايضا ثماني ساعات فقط بحسب القانون، رغم انها فعليا كانت تعمل لنحو 13 ساعة كما تقول.لم تكن "ع" تستطيع الاعتراض، فاما ان توقع او ان تخسر عملها كما تقول.
وتتابع "خلال هذه الشهور الاربعة، فقدت حياتي الاجتماعية وثقتي بنفسي جراء الاهانات المتلاحقة التي اتعرض لها في المصنع دون ان اكون قادرة على الرد او التذمر خشية فقداني لعملي. وكنت أعود للمنزل منهكة، راكضة نحو السرير الذي سبقتني إليه كل حواسي، حتى أنني عندما افيق اشعر وكانني لم انم ابدا".
طفح الكيل
بعد ان فاض بها ولم تعد قادرة على الاستمرار، قررت "ع" أن تترك عملها في ذلك المصنع، وبعد فترة قصيرة عملت في مصنع آخر، لكنه لم يطابق التوقعات تماماً.
صحيح ان الراتب أعلى بقليل في المصنع الثاني، ولكن ذلك ترافق مع "ذل ومهانة أكثر أيضاً".
ولم تلبث العاملة الشابة ان تركت العمل في هذا المصنع ايضا عندما اكتشفت ان اصحابه "يطلبون من العاملات أن يقمن العلاقات معهم، ومن توافق يرتفع راتبها بما يقارب 500 شاقل (حوالي 146 دولارا) ومن ترفض تُذل وتُهان وتعمل أضعاف المطلوب منها، او يتم طردها".
"ع" تعمل اليوم في المصنع الذي نحن متجهون اليه، وهو ليس أفضل من غيره من ناحية الراتب، لكنها على الأقل مرتاحة نفسياً.
لدى وصول الحافلة الى المصنع، ترجلت منه العاملات بتثاقل وكانهن يسقن الى مذبح. وفيما هن كذلك، كانت تتعالى اصوات المسؤولين وهم ينهرونهن ويحثونهن على الاسراع في الدخول والبدء في العمل.
وعلى امتداد اليوم الطويل لم تكن اصوات المسؤولين تهدأ، وكذلك لم تكن ايدي النسوة المنهكات تكف عن الحركة بشكل شبه آلي، لعل ذلك يجنبهن المزيد من الاهانات.
وفي المساء، انسلت النسوة من المصنع عائدات باتجاه الحافلة واحداهن تكاد تقع في مكانها لشدة التعب.
وقبيل الوصول الى الناصرة، قالت العاملة الشابة "ع" وهي تومئ برأسها الى احد الموظفين التابعين للمقاول، والذي صعد الى الحافلة للتاكد من اكتمال عدد العاملات "انا حزينة جداً لأجل اللواتي لا زلن يعملن تحت رحمة من باع ضميره، وفقد أخلاقه".
لا حقوق
حسب القانون، وكما تؤكد سامية ناصر مسؤولة المنتدى النسائي فرع الشمال في نقابة معاً العمالية، فان "المقاول لا وظيفة له ولا أجرة، ولو اشتكت الفتاة عليه فإن القانون يضمن لها كل حقوقها".
لكنها تستدرك قائلة "طبعاً قليلات جداً من يشتكين. وفي هذا الوضع لا نستطيع حل المشكلة، هذا غير أن معظم الأهالي لا يحبذون هذه الطرق كتقديم الشكاوى وأمور مشابهة، فلا يطالبون بحقوق بناتهم، والشيء المؤسف عندما يكون المقاول من العائلة، فيعتقد الأهل أن المقاول ابن العائلة أفضل من غيره".
لكن ناصر تؤكد ان "الحقيقة غير ذلك، فالمقاول ابن العائلة يعمل كشرطي على الفتاة، ويذلها ويهينها، وبالتالي فان تفكير الأهل المتخلف يساهم في استغلال العاملات".
وتضيف ان المقاول "يأكل جزءا كبيراً من رواتب العاملات، والحال نفسه مع شركات القوى البشرية..فمصدر الراتب من شركة القوى البشرية وليس الشركة أو المصنع أو المؤسسة الحاضنة، وبالتالي المصنع ليس مسؤولاً عن العاملات".
وتوضح "على سبيل المثال، من تعمل في الزراعة عن طريق مقاول، فهي غير مؤمنة صحياً، ولا تأخذ قسائم عمل شهرية، وتعمل دون تقاعد، وإذا أصيبت لا سمح الله في العمل فالتأمين الصحي لا يعترف بها..فهي من ناحية قانونية ليست موجودة كعاملة، أي بدون اثباتات رسمية أو قانونية".
وتتابع قائلة "اليوم الغالبية تعمل عن طريق المقاولين الذين يحققون ثروة كبيرة على حساب العاملات اللواتي لا حول لهن ولا قوةّ".
وتؤكد الناشطة النسائية ان "الفوضى الحاصلة ليست من المقاولين إنما من الدولة، التي سمحت للمقاولين بالدخول على خط العمل، حتى في البرلمان الذي يسن القوانين نجد أن هناك من يعمل عن طريق شركات القوى البشرية. وبالتالي نستنتج أن من يحكم الدولة هم أصحاب رؤوس الأموال".
وتنهي سامية حديثها قائلة "سوق العمل أصبح غابة، وقانون الغاب ما يسود هذا السوق".
ومن ناحيتها، تؤكد العاملة الاجتماعية هبه يزبك أن "الاستغلال غير القانوني للفتيات من قبل المقاولين له تأثيرات جمة على الجانب النفسي والاجتماعي للفتاة وليس فقط الاقتصادي".
وتضيف "نحن نطمح لدمج جميع الفتيات والنساء في مجتمعنا في سوق العمل، ولكن نرفض بشكل قاطع استغلالهن، إن كان عن طريق الأجر الزهيد وغير القانوني الذي يُسدد لهن مقابل عملهن أو من خلال تشغيلهن لساعات طويلة تفوق الـ8 ساعات يومياً، ناهيك عن التعامل غير الإنساني أحياناً وظروف العمل الصعبة".
وترى يزبك ان "مثل هذه التجارب السلبية لاستغلال حاجة الفتيات للعمل، وبالتالي هدر حقوقهن من شأنها التأثير في نفوسهن وهن في بداية مشوارهن الحياتي والعملي، فهذا العمل هو بحد ذاته سبب كافٍ لتشعر الفتاة بالإهانة والذل والدونية".
وفي سياق تقريرنا هذا، حاولنا التحدث مع مقاولين، الا انهم رفضوا، حتى ان احدهم اغلق سماعة الهاتف لدى علمه بالموضوع الذي نريد الحديث حوله.
إستمع الآن