عمان - مضمون جديد – سوسن زايدة
في إمكانك أن تراقب شوارع عمان لساعة واحدة، لتكتشف بدون عناء مدى حاجة المواطن الى نظام نقل عام يحقق عدة غايات اهمها توفير خدمة جيدة سريعة وتسهم في الحفاظ على البيئة باسعار مقبولة. لهذه الغاية وضعت أمانة عمان، وبدأت، بتنفيذ مشروع الباص السريع الذي سرعان ما توقف مثيرا الكثير من غبار التحاليل والإشاعات والاتهامات والاتهامات المضادة وتشوش الافكار والقرارات.
هل تحتاج عمان لنظام نقل عام ؟
يعاني مستهلكو النقل العام في عمان من رداءة الخدمة نتيجة اكتظاظ الركاب في الباصات والمواقف، وطول مدة الانتظار، وارتفاع الكلفة مقارنة بمعدل دخل الأسر، وعدم التزام الحافلات بمواعيد ومسارات محددة، الأزمات المرورية، التلوث البيئي، ضعف السلامة المرورية، وقدم الحافلات ومحدودية طاقتها الاستيعابية وقلة عددها، حيث يوجد 500 باص و350 كوستر و3200 سرفيس، تخدم سكان العاصمة والقادمين لها من المحافظات الأخرى والمقدر عددهم بثلاثة ملايين نسمة، أي حوالي نصف سكان المملكة.
وبذلك لا تتجاوز نسبة استخدام النقل العام في عمان 13%، هي من أقل النسب العالمية التي تصل إلى 90% في هونغ كونغ و75% في القاهرة وتنخفض إلى 30% في بيروت المعروفة بكثرة السيارات الخاصة والأزمات المرورية.
ومن مجموع الرحلات اليومية المقدرة بـ4,5 مليون رحلة، ترتفع نسبة استخدام السيارات الخاصة في عمان إلى 34%، تتزايد سنويا بنسبة 10%. في حين لا تتجاوز نسبة رحلات الباصات التي تحمل 20 راكبا فأكثر 5% وباصات المدارس 13%، ويتقاسم السرفيس والتكسي نسبة 17%، إضافة إلى 26% للمشاة و5% وسائل أخرى.
ويساهم ارتفاع استخدام السيارات الخاصة التي تقل راكب أو اثنين في زيادة التلوث البيئي، الأزمات المرورية، العبئ الاقتصادي على ميزانية الدولة لارتفاع أسعار المحروقات وعلى اقتصاد الأسر والأفراد لارتفاع كلفة التنقل.
وفي ظل تدني مستويات دخول الأسر التي تقل في الغالب عن 500 دينار لخمسة أفراد. تصل نسبة كلفة التنقل من دخل الأسرة بين 25 الى 30% ليحتل الأولوية الثالثة بعد الطعام والسكن.
يحذر مدير المرور والنقل في أمانة عمان،أيمن الصمادي من استمرار الوضع الحالي حيث سيصل عدد المركبات الخاصة إلى مليونين بعد عشر سنوات. "هذا يتطلب أعمال طرق كبيرة جدا وجسور وتوسيعات شوارع، فمثلا تقاطع الشميساني كلف 20 مليون دينار، ولكي ننشئ أربعة أو خمسة تقاطعات أخرى سنتكلف 100 مليون لحل الأزمات المرورية، بالإضافة إلى العبء الاقتصادي على الخزينة العامة، فشراء السيارات الخاصة واستهلاك المحروقات يعني خروج أموالنا من البلد.
كما أن ذلك سيكون ذلك على حساب المشاة المشتكين من غياب أو رداءة الأرصفة، فخلال الفترة الماضية لجأنا إلى استقطاع الأرصفة لتوسيع الشوارع ولن نستطيع الاستمرار بذلك".
تشابهت الآراء حول رداءة خدمة النقل العام في عمان في استطلاع لآراء طلاب من الجامعة الأردنية ومستخدمين للنقل العام، ممن استهدفتهم أمانة عمان في مشروع "الباص السريع".
إيناس مسلم وصفت معاناتها مع الأزمات المرورية، "في أوقات تتكدس الباصات وفي أوقات أخرى تغيب الباصات ويطول انتظار الركاب إلى حين مرور باص واحد يتكدسون فيه".
لينا مشعل "أولويتي توفر باصات جيدة لا تلوث البيئة وركوب مريح داخل الباص يلتزم بمسار ومواعيد محددة لتجنب انتظار واكتظاظ الركاب".
خليل الزيود، يعاني من ارتفاع أجرة النقل العام، الأزمة المرورية، فوضى وازدحام الركاب وتدافعهم في مجمع الزرقاء: "يتطلب الانتقال من بيتي في الزرقاء إلى الجامعة الأردنية قرابة ساعتين، أخرج الساعة السادسة صباحا لأتمكن من حضور محاضرة الثامنة صباحا".
لحل هذه المشكلة أجرت أمانة عمان عدة دراسات خلال الأعوام 2008-2010، خلصت إلى ضرورة تطوير نظام نقل عام في العاصمة عمان. وأظهرت دراسة كلف وتنفيذ وجدوى خيارات نظم نقل مختلفة، أن الباص السريع المستخدم في 120 مدينة عبر العالم هو الخيار الأكثر ملائمة لعمان، والذي سيخدم حوالي 200 ألف شخص يوميا، قابلة للزيادة بعد تحسن نوعية خدمة النقل العام. ويهدف القائمون على المشروع إلى "إحداث تغيير إيجابي عن طريق تعزيز ثقافة النقل العام، تنمية البيئة الحضرية، والإسهام في تخفيف الأعباء المالية على المواطنين".
ما هو نظام الباص السريع ؟
وبحسب دراسة الامانة فان المشروع يتكون من ثلاثة حزم: الأولى من دوار صويلح إلى دوار المدينة، والثانية من دوار المدينة مرورا بالدوار الخامس إلى راس العين، والثالثة من دوار المدينة مرورا بالمجمع الشمالي ومجمع المحطة إلى دوار الجمرك.
ويقسم الشارع وفقا للمشروع إلى مسربين في المنتصف للباص السريع، جزيرتين لمواقف الركاب، 6 مسارب للسيارات (3 على كل جانب)، مسربي اصطفاف، ورصيفين للمشاة (واحد على كل جانب).
وتتكون البنية التحتية من ثلاثة أجزاء: أولا، مسارب الباص السريع وتقدر بـ24 مليون دينار، وطولها 32كم وتتضمن إعادة تأهيل الطرق لاستخدام بعض الحمولات المحورية وفصل المسارب والمسافات اللازمة بين المحطات وإنشاء أرصفة جديدة إن لم توجد وتحسين جسور المشاة.
ثانيا، التقاطعات وتقدر بـ32 مليون دينار، ومن أهداف المشروع تحسين كل تقاطع يمر به مسار المشروع بالنسبة للسيارات والباصات والمشاة.
ثالثا، المجمعات وتقدر كلفتها بـ30 مليون دينار وهي شاملة للباصات السريعة وغيرها من الباصات والتكسيات والسيارات المغذية للمسار السريع والقادمة من خارج عمان.
ويشتمل المشروع على مواقف بكلفة 3 ملايين دينار، أنظمة تحكم وإشارات وغيره 3 ملايين، استملاكات 8 ملايين، كلف إدارة وإشراف للمشروع مليونين. وبذلك يكون مجموع كلفة المشروع 113 مليون دينار ستغطيها الأمانة من خلال قرض ميسر حصلت عليه الأمانة من وكالة الإنماء الفرنسية، يسدد على مدى عشرين عاما وبنسبة فائدة ثابتة تقل عن 4% مدعومة من الحكومة الفرنسية. سحبنا لغاية الآن 10 ملايين ترتب عليها فائدة أقل من 1%.
ويرى الصمادي أن المشروع قادر على تغطية كلفته التشغيلية المقدرة بـ18 مليون دينار وكلفة التمويل المقدرة بـ113 مليون دينار. هذا من دون الأخذ بنسبة النمو السنوية الممكنة من زيادة عدد المستخدمين نتيجة تحسن جودة الخدمة. "لدينا 600 ألف رحلة نقل عام يوميا، ستتحول نسبة كبيرة منها إلى خط الباص السريع، مع الأخذ بالاعتبار أن المرحلة الأولى من المشروع لن تغطي كل عمان لكن يوجد تركيز كبير على الخطوط الرئيسية التي اخترناها.
وإذا حسبنا حجم الطلب من الركاب بحيث يتقاضى الواحد حوالي 30 قرشا على الرحلة، فإن عدد الرحلات المقدرة بأكثر من مئة مليون رحلة والتي تتمثل في خط طوله 24كم يتعدد خلالها الركاب ويقدر عددهم بـ200 ألف شخص يوميا".
مشددا على أن "المشروع خدمي ولا يتوجب تقييمه مالي".
آراء مغايرة ؟
المختص في هندسة الطرق والمرور في جامعة العلوم التطبيقية، شاكر محادين، ينتقد الكلفة العالية للمشروع ومتطلباته، ويشكك في جدواه. "طول مسار الباص السريع 32كم يتخلله 21 موقفا يعني أن الباص لم يعد سريعا وأن الوقت الزمني للرحلة طويل".
ويضيف: "يجب أن يكون هناك خطة شاملة لوسائل النقل العام من باصات وتكسيات وغيرها، تدمج معا لنقل الركاب من منطقة لأخرى. لا يجوز تنفيذ هكذا مشروع بمعزل عن خطوط الباصات الأخرى، أي أنه يجب تأمين خطوط باص أخرى تؤمن الركاب من موقف الباص السريع إلى وجهتهم اللاحقة".
ويقترح محادين :"تحسين إدارة نظام النقل وتطوير الموجود، وليس بنية تحتية جديدة تتطلب كلفة عالية كما الحال في مشروع الباص السريع".
"فكرة المشروع جديدة وعادة التغيير يواجه بالمقاومة"، يقول مدير المرور والنقل في الأمانة.
ويضيف: "خلال السنوات الثلاث الماضية كان تركيز دراساتنا على خلق توازن بإيجاد بديل عن استخدام السيارة الخاصة وهو نظام النقل العام، وعبر دراسة جميع الخيارات الممكنة ليكون اللبنة الأساسية لتأسيس نظام نقل عام يليق بعمان ومواطنيها.
وجاء هذا المشروع بعد إجراءات عديدة اتخذتها الأمانة خلال السنوات الأخيرة لتشجيع مشغلي الباصات على الالتزام بنظام نقل عام يشمل تحديد المواعيد والخطوط، ابتداء من إعفاءات تشجيعية للمشغلين ووضع خرائط مرور للخطوط والمواعيد وانتهاء بتجربة المتكاملة، لكن الباصات لم تنجح في الحفاظ على مساراتها.
ويوضح الصمادي أن المشروع يتضمن جميع المقترحات المذكورة، بما فيها باصات مزدوجة تتسع 150 راكب مع نظام دفع إلكتروني ونظام معلومات وإدارة لتحديد مواعيد ومسارات الباصات.
من ناحيته يرى نقيب العاملين في النقل البري وعضو مجلس الإدارة المؤقت المنتخب للشركة المتكاملة للنقل المتعددة، محمود المعايطة، أن المشروع "ممتاز ويخدم المواطن ولن يكون له تأثير سلبي على العاملين في قطاع النقل العام لأن خطوط المشروع محدودة والخطوط والباصات الحالية غير كافية والمواطنين في ازدياد، ويمكن تحويل الباصات العاملة على خطوط الباص السريع إلى خطوط أخرى فيها نقص وهي شكوى دائمة من المواطنين".
لكن المعايطة غير متفائل بالمشروع لأن "كلفته باهظة ولا تتوفر ميزانية له". كما يرى أن مشكلة النقل العام في عمان معقدة ويصعب حلها بسبب غياب الكفاءات والاختصاصات في المؤسسات الرسمية العاملة في مجال النقل. ويدعو إلى عدم تسليم النقل العام للقطاع الخاص التجاري.
لكن الأمانة لا تنوي تشغيل المشروع بنفسها، وستطرح عطاء عالميا. يقول مدير النقل والمرور في الأمانة: "في مشروع الباص السريع سيتم تشغيل 136 حافلة مع 10 حافلات احتياطية وهو حجم مناسب لمشغل واحد، ولن نستطيع تجزئته لكي تترتب أمور التشغيل ومراعاة الاختصاص والخبرة والمؤهلات في أنظمة مثل الاتصالات والتتبع والإدارة.
قرار تعليق المشروع
باشرت أمانة عمان العمل في المرحلة الأولى من المشروع بعد أن قدمت دراساتها المتعلقة بالباص السريع للأطراف الرسمية المعنية، الحكومية والنيابية، وأتاحت دراساتها لكل المهتمين من نقابات وإعلام وخبراء ومواطنين، منذ شهر نيسان 2010. ونالت موافقة حكومتي الذهبي والرفاعي السابقتين وبدأت العمل بالمرحلة الأولى. وجاءت حكومة البخيت الحالية ولم تبد أي ملاحظة طوال خمسة شهور استمر خلالها تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع في شارع الملكة رانيا، إلى أن قرر مجلس النواب تشكيل لجنة تحقق في المشروع.
وقد تشكلت برئاسة النائب أحمد العتوم وعضوية النائب أحمد الهميسات مقررا، وقد رفعت اللجنة تقريرها في 7 أيار 2011 لرئيس الوزراء معروف البخيت، طالبت فيه بوقف المشروع كليا واتخاذ الإجراءات اللازمة للتحقيق ومحاسبة القائمين عليه.
وقال مقرر اللجنة الهميسات لصحيفة الغد أن سبب الطلب "عدم حاجة العاصمة لمثل هذا المشروع، بالإضافة إلى كلفته العالية والتي تصل إلى 166 مليون دينار، بالتزامن مع شح موارد المملكة". وأضاف أن "الأمانة تعاني من عجز يصل إلى 400 مليون دينار في الوقت الحالي، وليست بحاجة إلى قرض المشروع".
لكن التقرير النيابي بقي في أدراج البخيت قرابة شهرين دون اتخاذ أي إجراء لغاية 26 حزيران 2011، أي قبل يوم واحد من تصويت مجلس النواب على مسؤولية البخيت عن ملف الكازينو، حيث أصدر كتابا بتشكيل لجنة حكومية للنظر في مشروع الباص السريع وبتحويل القضية إلى ديوان المحاسبة.
وتشكلت اللجنة الحكومية، بناء على توصية النيابية برئاسة وزير الأشغال العامة، وعضوية مندوبين عن كل من وزارة الزراعة، النقل، البيئة، أمانة عمان الكبرى، جامعتين حكوميتين، نقابة المهندسين الأردنيين، نقابة مقاولي الإنشاءات الأردنيين. وأوصت بتعليق المشروع.
وأعلن رئيس اللجنة، وزير الأشغال العامة والإسكان يحيى الكسبي، في تصريحات لصحيفة الرأي في 20 أيلول 2011، "فشل مشروع الباص السريع وتحمل الأمانة المسؤولية". لكنه عاد ونفى تصريحاته في اليوم التالي وقال لنفس الصحيفة أن "تقرير اللجنة الفنية بين أن مدينة عمان بحاجة إلى مشروع نقل عام متخصص مثل مشروع الباص السريع ، ولم يكن من ضمن مهام اللجنة تحديد مسؤوليات أو تحميل مسؤوليات لأي جهة".
ورفع ديوان المحاسبة تقريره إلى رئيس الوزراء في 10 آب 2011 وخلص بأن المشروع "لا يعود بجدوى على الصعيد الاقتصادي أو الهندسي أو الاجتماعي أو البيئي بوضعه الحالي المتعلق بالتصاميم والمسارات المحددة". واتهم الأمانة بانها "باشرت بتنفيذ هذا المشروع دون استكمال الدراسات اللازمة والكاملة له من النواحي الهندسية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية".
وبعد وقف العمل في المشروع لقرابة ثلاث شهور تم خلالها تشكيل اللجان وتقديم تقاريرها، أصدر مجلس الوزراء في 10 أيلول 2011 قراره بتعليق تنفيذ المشروع مبدئياً إلى ما بعد استكمال وتدقيق الدراسات التفصيلية.
وردت الأمانة على التقرير بانه يحتوي على "العديد من المغالطات المبنية على معلومات خاطئة واستنتاجات غير مدعومة بحقائق"، ومشككة بـ"موضوعية وجدية تقرير ديوان المحاسبة". وأن "ديوان المحاسبة لم يطلب أي من الدراسات المفصلة أو الجدوى للمشروع باستثناء التقرير الملخص".
على اي حال، فان المشروع الذي كان من شأنه أن يوفر خدمة جيدة وبأسعار معقولة للمستهلك، إضافة الى فوائده البيئية الكثيرة تم تعليقه لأسباب لا تزال شبه غامضة، خاصة وان تقارير كل اللجان لم تشر إلى وجود شبهة فساد في المشروع.
وعليه فان بعض المؤيدين للمشروع أشاروا، رافضين ذكر أسمائهم، إلى وجود تداخل مصالح سياسية وحسابات اقتصادية وتجارية خاصة لجماعات ضغط من وزراء ونواب وأصحاب صحف وإعلاميين، عملت على عرقلة المشروع وتضليل الجمهور.
على كل إذا كان من الصعب إثبات اتهامات المؤيدين للمشروع هذه فان الثابت فيما حصل مع المشروع اظهر تخبطا وتلكؤا في تعامل الحكومات مع المشروع فسر على انه مزاجية غريبة جدا في اتخاذ القرارات حتى عندما تكون هذه القرارات تخص مشاريع حيوية ومكلفة ماليا.
يسأل الخبير في النقل العام ، حازم زريقات في مقال له : بعد كل هذا: إذا كان السير بمشروع كهذا بالأطر والإجراءات القانونية يؤدي إلى تعثره، فكيف لنا أن ننجز شيئاً في هذا البلد؟ وكيف لنا أن نميّز ما هو صحيح عمّا هو غير ذلك؟ ما هو المقياس إذا كانت العطاءات المفتوحة والدراسات العلمية والإحصاءات غير كافية؟ هل المقياس مجرد أن يقول أحدهم "الباص السريع مشروع فاشل؟".
وهكذا فقد ضاع أو تأجل لاجل غير مسمى تنفيذ مشروع كان من شأنه توفير حماية للمستهلك من خلال خدمة جيدة بسعر معقول والإسهام في الحفاظ على البيئة، فمتى سيعاد الاعتبار للمشروع؟ ومتى سيخرج قرار التنفيذ من دائرة التشكيك والاتهامات المتبادلة؟