اشجار تروى بمياه الصرف في غزة
غزة - فادي الحسني - مضمون جديد
يبدو أن ري المزروعات بالمياه العادمة في منطقة "الشيخ عجلين" وسط قطاع غزة، لا تحتمل تأويلا أو تبريرا، على اعتبار أن تلك المياه غير صالحة للزراعة، رغم انها تبدو في الظاهر مكررة ومعالجة.
ويقوم مزارعون بري مزروعاتهم بهذه المياه عن طريق أنابيب موصولة بمحطة التكرير الواقعة وسط أراضيهم، وبشكل علني، ومن دون ان تتخذ الجهات الرسمية اجراءات بحقهم.
وكانت بلدية غزة انشأت هذه المحطة بدعم من جهات دولية، للاستفادة منها في ري المزروعات (أشحار الزيتون، والحمضيات)، لكن تجاوز كميات المياه العادمة لطاقة المحطة التكريرية أفسد نوعية مخرجاتها من المياه المعالجة.
نفي استخدام
ولا يحبذ المزارعون المخالفون الحديث عن آليات الري عبر المياه العادمة، ومعظمهم نفى الاعتماد على المياه العادمة في ري مزروعاته.
ووسط موجة حر التقى "مضمون جديد" بالمزارع العشريني محمود ذو البشرة القمحية وهو يقوم بتعبئة حوض ماء كبير عند أطراف أرضه الزراعية، وسألته عن نوعية المياه التي يعتمد عليها في الري، فقال "نحن نعتمد على بئر حفرناها منذ فترة طويلة، وتستمد مياهها من الخزان الجوفي".
وأشار محمود وهو مالك لأرض مزروعة بأشجار العنب والتين، إلى أن الري بالمياه المعالجة أمر مقتصر على عدد محدود من المزارعين في المنطقة المحيطة وأن الغالبية العظمى تعتمد على الآبار.
ومن جهته ايضا، يؤكد المزارع الشاب (عمر.م) الذي كان منشغلا بالنكش حول شجرة زيتون، انه يعتمد على بئر حفرها وأنه لم يتطرق قط لعملية الري بالمياه المكررة.
نفي المزارعين أو تحفظهم على عمليات الري التي يقومون بها، لا ينزع عن بعضهم صفة المخالفة، إذ أن "مضمون جديد" تتبع بعض انابيب الري في مزرعة لاشجار الزيتون والتين والعنب، فكان أحد طرفيها موصولا بأحواض المياه العادمة في محطة المعالجة.
وأثارت مخالفة بعض المزارعين، مخاوف الغزيين الذين اتهموا الحكومة بالتقصير في وضع حد لما اسموه "استخفافا بصحة المواطنين".
وقال المواطن محمد عبد الله من سكان مدينة غزة "لا يجوز بحال من الاحوال ري المزروعات بمياه عادمة معالجة من درجات ثانية وثالثة، خاصة إذا ما تبين أن تلك المياه لا تتوفر فيها الشروط التي تجعلها صالحة للزراعة".
واعتبر عبد الله وهو يعمل في قطاع التعليم، أن هناك تقصيرا واضحا، سببه الجهات الرسمية ممثلة ببلدية غزة ووزارة الزراعة، ازاء عدم محاسبة المتورطين في مثل هذه العملية.
أما المواطن أبو رأفت جبريل، فأدان هذا الإجراء ووصفه بـ"الخطير"، وعبر عن استيائه من عدم اكتراث بعض المزارعين بصحة الناس.
95% فاسدة
في غضون ذلك قال القائمون على المحطة "إن ما نسبته 95% من مياه الصرف الواردة إلى المحطة يجري ضخها إلى البحر ولا استيعاب لإعادة استخدامها"، مما يدلل على عدم صلاحية استخدامها البتة.
وأوضح أنور موسى القائم على تشغيل محطة معالجة مياه الصرف الصحي، أن عددا قليلا من المزارعين يتعاملون مع تلك المياه فيما لا تتقبل الغالبية فكرة استخدام مياه الصرف المعالجة في الري.
واعتبر موسى أن معالجة المياه العادمة تحتاج إلى تقنيات عالية غير متوفرة بسبب قلة الإمكانات وصغر حجم المحطة التي كان مخططا لها أن تستوعب 32 ألف لتر مكعب من مياه الصرف، في حين أن الوارد إليها حاليا يفوق الـ60 ألف "وهذا الفرق يؤثر على عملية التكرير"، كما قال.
ونفى مسؤول محطة معالجة مياه الصرف الصحي التابعة لبلدية غزة أن يكون أي من المزارعين قد قام بمد انابيب عشوائية الى الأحواض لغرض ري ارضه، موضحا أنهم لن يسمحوا أيضا بتوصيل خطوط بأنبوب المياه المعالجة الواصل الى البحر.
وقال موسى: "قمنا بمد خط حديد قوي مدفون على اعماق ليس من السهل وصول أيدي المزارعين اليها"، مشيرا إلى أن لديهم عينات للمياه الداخلة والخارجة من المحطة وبناء عليها يقومون بالتصرف بالمياه.
وفي هذا السياق، كشفت مصادر مطلعة لـ"مضمون جديد" عن ان مزارعين قاموا بثقب خطوط المياه العادمة وتوصليها بأنابيب لغرض ري أراضيهم الزراعية.
وكما يؤكد موسى، فانهم يقومون بتزويد عدد محدود من مزارع الزيتون الصغيرة المجاورة للمحطة بمياه معالجة.
وقال ان هذه المزارع "قليلة جدا لا تتعدى مساحتها 20 دونما (..) المياه المعالجة عليها قيود، و فقط تستخدم للأشجار كالزيتون والحمضيات، والمياه التي كنا نمد المزارعين بها مطابقة للمواصفات".
اتفاقية استخدام
مصادر مطلعة على عمل محطة التكرير قالت إن مستخدمي تلك المياه من المزارعين المجاورين، لا يستفيدون منها في الفترة الحالية بسبب اعمال الصيانة في المحطة.
وأضافت المصادر لـ"مضمون جديد" ان "المواطنين يستخدمون هذه المياه في فترات معينة كسماد، وهي تصلح للأشجار العلوية".
وأوضحت أن من يقدم طلبا لمد انبوب الى الأحواض، يتوجب عليه تقديم طلب للبلدية، والاخيرة بدورها تخاطب ادارة محطة التكرير "واذا اعطت المحطة موافقتها فان مقدم الطلب يقوم بمد الأنبوب على نفقته، والمحطة بدورها تتولى عملية الضخ".
في المقابل قال موسى انه "اذا كانت نوعية المياه المعالجة جيدة، فاننا نقوم بتزويد المزارعين بها، والعكس صحيح، لكن المحطة تعمل حاليا فوق طاقتها الاستيعابية، ولدينا مشروع لتطويرها من أجل استيعاب جميع كميات المياه العادمة الواصلة اليها، وهذا سيستغرق نحو ثمانية أشهر".
وتابع موسى انه "منذ نحو عام لم نقم بتزويد المزارعين بالمياه المعالجة لان المعالجة التي تتم في المحطة جزئية ونواتجها غير صالحة للري(..) نحن لدينا شروط معينة لضخ المياه الى المزارعين اهمها ان يكون الري للشجر فقط لا الخضروات، وهناك اتفاقية بهذا الشان بين البلدية والمزارعين الذين يتعاملون مع هذه المياه".
وأشار الى ان الاتفاقية تنص على ايقاف ضخ المياه المعالجة قبل نضوج المحصول بنحو شهر تقريبا، على أن تروى الاراضي خلال ذلك بمياه الابار العادية.
"مضمون جديد" بدوره حاول الحصول على نسخة من الاتفاقية، لكن البلدية رفضت متذرعة بوجود تعليمات تمنع ذلك، كما رفضت ايضا اطلاعنا على أية نتائج للفحوصات التي تقوم بها لعينات المياه الداخلة والخارجة من المحطة.
اتلاف محاصيل
عمليا لم تسجل حالات اتلاف لمحاصيل في منطقة أحواض الصرف المعالج جنوب غزة، في حين أن "مضمون جديد" علم من مصادر مطلعة أنه جرى مؤخرا اتلاف محصول كامل من "الملفوف" زرع في المحافظة الجنوبية من قطاع غزة، واستخدمت المياه العادمة في ريه.
السؤال هنا: هل يجري فحص الثمار التي يقطفها المزارعون في المنطقة المحيطة بالأحواض؟. يجيب مسؤول المحطة انور موسى أن ذلك من مسؤولية وزارتي الزراعة والصحة وكذلك سلطة المياه، وليس البلدية التي تقتصر مهمتها على المتابعة التشغيلية فقط.
كما اكد موسى أنه لم يتم اتلاف أي من المحاصيل الزراعية المستفيدة من مياه الصرف المعالج، مع اشارته على ان عمليات الاتلاف تقع على عاتق وزارة الزراعة.
وزارة الزراعة بدورها نفت اتلاف محاصيل مخالفة، وقال نائب مدير عام دائرة التربة والري في الوزارة، نزار الوحيدي انه "لو تقدم إلينا احد بشكوى، فسنقوم حينها بالفحص والمتابعة".
واوضح الوحيدي ان "عملية المعالجة التي تتم للمياه في محطة المعالجة (الشيخ عجلين) هي عملية من الدرجة الثانية وغير مكلورة -لا تحتوي على مادة الكلور- بمعنى أنها تصلح لري اشجار البساتين لكنها غير صالحة لري الخضراوات خاصة التي تؤكل طازجة".
وأضاف "احيانا تكون الحالة العضوية للمياه الناتجة من المحطة مناسبة لري الخضراوات، لكن لأنها غير مكلورة ومستقرة..فقد يشكل الري بها خطرا كبيرا خاصة اذا انتشرت امراض وبائية كالكوليرا والتيفوئيد والحمى الشوكية".
رقابة ومتابعة
وعلى صعيده، اكد فؤاد الجماصي مدير دائرة صحة البيئة في وزارة الصحة، إن الوزارة تقوم بمتابعة متواصلة وفحص مستمر لجميع المحاصيل الزراعية الواردة إلى الأسواق.
ورفض الجماصي تاكيد او نفي المعلومات حول حادثة اتلاف محصول الملفوف في المحافظة الجنوبية، واكتفى بالقول "بغض النظر عن الاتلاف، فإن أي مزروعات تروى بمياه الصرف الصحي تتلف ويقدم صاحبها للمحاكمة، ونحن نقوم بالمتابعة بالتعاون مع سلطة البيئة والبلديات وكذلك سلطة المياه".
وأضاف ان "عملية الري بالمياه المعالجة تستخدم وفق معايير محددة، اهمها ان تكون الاشجار مثمرة كالزيتون والبلح، ولا تستخدم مع الخضروات.. هناك ضوابط للاستخدام ودرجات للمعالجة".
في الإطار ذاته كشف مدير دائرة صحة البيئة في وزارة الصحة عن اعداد مسودة نظام لتحديد معايير المياه العادمة التي تستخدم في عملية الري.
فيما ذهبت سلطة جودة البيئة إلى أبعد من ذلك في كشفها عن "مصلحة" جاري العمل عليها، لغرض الاشراف على اعادة استخدام المياه المعالجة.
وقال بهاء الأغا مدير عام التخطيط والسياسات البيئة في السلطة ان "هناك 40 مليون لتر مكعب سنويا من المياه العادمة يجري العمل على ايجاد مصلحة لمتابعتها والاستفادة منها في الري لتغطي تقريبا نصف الاستهلاك الزراعي من المياه".
وأَضاف الأغا ان "السبب الرئيس وراء انشاء المصلحة هو اننا بحاجة لاستغلال كل قطرة مياه، وتبقى مسؤوليتنا فقط في هذا الإطار وضع المعايير الصحيحة لاستخدام المياه المكررة، ومراقبة استخدامات المياه بشكل عام"، موضحا ان تلك المصلحة ستبدأ بمشروع تدريبي لنحو 30 مزارعا في منطقة حي الزيتون جنوب مدينة غزة، سيتم تأهيلهم لاستخدام المياه المعالجة بشكل صحيح.
ويعد استخدام المياه المكررة واحدة من الحلول لمواجهة أزمة شح المياه التي تتعرض لها منطقة الشرق الأوسط عامة، وقطاع غزة على وجه الخصوص مع العلم أن لهذا الخيار ضوابط ومحاذير .
إستمع الآن