معيار القيم في الثورة السوريّة
نعت المعارضة السوريّة زهران علّوش بطلاً وطنيّاً. شيّعته رمزاً للقيادات التي عُوّل عليها كسر عتمة حقبة البعث الأسديّ، وإطلاق فجرٍ سوريٍّ حضاريٍّ مدنيٍّ جديد. بنت تقويمها للرجل وتاريخه وفق معيار الضدّية للأسد دون غيره. وهي إذ فعلت ذلك، أظهرت ابتلاءها بالداء ذاته الذي أتعس التاريخ العربيّ الحديث.
ذاك أنّ تعريف الحلفاء انطلاقاً من التلاقي في الضدّية لعدوٍّ مشتركٍ يُلغي الأسس الأخلاقيّة والثقافيّة والسياسيّة التي يجب أن تقوم عليها التحالفات، خصوصاً حين تكون مهمّة الحلفاء إنهاء حقبةٍ وبدء أخرى. التلاقي في الرفض يُتيح العمل المشترك على إسدال النهاية على مرحلة. لكنّه لا يعني التوافق على هويّة مرحلةٍ جديدة. وفي وقتٍ يواجه الشعب السوري تحديّاً بحجم إعادة بناء وطن، يُمثّل إلغاء شرط الانسجام في المعايير الأخلاقيّة أساساً للتحالفات سقوطاً يُنذر بدمارٍ حتميّ.
قاوم علّوش الأسد وبطشه. ونجح في بناء قوةٍ عسكريةٍ فرضت نفسها رقماً صعباً في ساحة الحرب السوريّة. كذلك فعل "داعش" و"النصرة" وفصائل مقاتلة أخرى. اعتبار التصدّي للأسد معياراً وحيداً لتقويم المعارضة يجعل من كلّ من حمل السلاح ضدّ النظام حليفاً. وتلك خطيئةٌ لا يجب أن يعاني السوريون تبعاتها.
صحيحٌ أنّ "جيش الإسلام" وعلّوش لم يرتكبا جرائم "داعش". ولا يجوز، تالياً، تصنيفهما في الخانة ذاتها. بيد أنّ علّوش لم يرتقِ إلى صفّ المعارضة المستنيرة المرتكزة إلى معايير قيميّةٍ وأخلاقيّةٍ تتماهى مع هدف أكثريّة السوريّين بناء وطنٍ حضاريٍّ مدنيٍّ جامع. لذلك تبرز تساؤلاتٌ مشروعةٌ حول وجاهة تخليده رمزاً وطنيّاً يحتذي به السوريون المناضلون على طريق الحرية.
فجرائم النظام البشعة لا تبرّر جرائم معارضيه. وليس من أجل تكرار قمع الأسد وظلمه على يد آخرين معارضين له ثار الشعب السوري. على أساس ممارساته وتوجّهاته، وليس من منظور معارضته للأسد فقط، يجب أن يُقوّم علّوش وغيره ممّن باتوا يقتسمون السلطة على أرضٍ كانت يوماً مبعث نور الشرق وحضارته.
سجن علّوش الأبرياء. خطف الوطنيّين الذين لم يتّبعوا منهجه، وقسّم السوريّين أعراقاً وطوائف. وفي مواجهة وحشيّة الأسد ضدّ الأبرياء العزل، لجأ علوش إلى وحشيةٍ مضادّة، حين وضع مدنيّين في أقفاصٍ ووزّعهم في الأسواق لتمزّقهم قذائف الأسد أشلاءً. أيّاً كانت الأسباب والدوافع، تُمثّل مثل هذه الأفعال جرائم تُسقط مرتكبها من قائمة المعارضين المأمول منهم قيادة سورية إلى استعادة حضاريّتها وحقّ أهلها في العيش الكريم.
وُلد علّوش من ظلاميّة الحقبة البعثيّة الأسديّة. تبعه كثيرون لأنّه قدّم جيشه مدافعاً عنهم، يحمي أطفالهم وشوارعهم ومدارسهم وبيوتهم من آلة القتل الأسديّة. لكنّه اختار وقت تمكّن أن يفرض على مناطق نفوذه ممارساتٍ ظلاميّةٍ أيضاً.
هل كان علّوش سيتغيّر في سورية جديدة متحرّرة من قمع الأسد؟ ربّما. هل تبلورت أدوات معارضته ومنهجها ردّة فعلٍ على بطشٍ أضعف إنسانيّته؟ أيضاً ربّما. لكنّ مشروعيّة البحث عن تفسيرٍ لما ولّدته ممارسات الأسد في شعبٍ يستقي من موروثٍ حضاريٍّ بغنى الإرث الشاميّ لا تُبيح التبرير ولا تُلغي ضرورة التقويم وفق الممارسات لا الدوافع.
لم يملك الشعب السوريّ آلة الدمار التي وظّفها النظام لقتله وسلب إرادته. لكنّه امتلك الأفضليّة الأخلاقيّة التي تُمثّل، نهايةً، سلاح الأبرياء الأقوى.
وتمتلك دولٌ وأطرافٌ خارجيةٌ، مدفوعةٌ بمصالح وأطماع، ترف المتاجرة بالقيم والأخلاق في سورية. فالحرب لا تدور في مدنها، والقتلى والمشرّدون ليسوا من أبنائها. لذلك يجعل هؤلاء من "النصرة" حليفاً، ويوفرّون منابر التجهيل والتحريض لدعاة الموت والتخلّف. فهم يوظّفون المأساة السوريّة ورقةً في حساباتهم المصلحيّة، ولا يدفعون، حتّى الآن على الأقلّ، كلفة فعائلهم.
لكنّ السوريّين لا يمتلكون هذا الترف. فتنازل المعارضة عن القيم الإنسانيّة الجامعة يُفقدها أفضليّتها الأخلاقيّة، ويضع سورية على طريقٍ ضالةٍ نحو المزيد من الصراع والدمار والمعاناة.
لم يثر السوريّون على عتمة الأسد ليُدفنوا في ظلاميّة غيره. الحرّيّة التي ينشدون غايةٌ لا وسيلة إليها إلا الاستنارة. ذاك درسٌ حاضرٌ في تاريخ البشريّة، وقاعدةٌ تضلّ المعارضة إن أسقطتها وهي تناضل لتحرير شعبها من ظلم الأسد ووحشيّة نظامه.