فاعليّة الثّقافة وتشكّلاتها النّصيّة في رواية خلف السَّدة للرّوائيّ عبد الله صخّي
تُعدّ روايةُ "خلف السَّدة"، الّتي تقع في مئةٍ وستين صفحة، موزّعة على عشرةِ فصول، باكورةَ أعمالِ الرّوائيّ العراقيّ عبدالله صخّي، المولود في بغداد، سنة 1951م.
بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه من الصّعوبةِ بمكانٍ الإحاطةِ بتفاصيل الرّواية في هذه المقالة، هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر، أنّ كثيرًا من التّفاصيل يتداخلُ بعضها ببعض، لكنني هنا أودّ التّركيز على فاعليةِ الثقافة ومدى توظيفها في الرّواية.
تتناول الرّوايةُ الحياةَ العراقيّة، في بداياتِ النّصفِ الثّاني من القرنِ العشرين، وتتحدّث عن التّغيّراتِ الّتي طرأتْ في نهايةِ حقبة الخمسينيّات، كما عالجتْ الرّوايةُ النّزوحَ من أريافَ جنوب العراق إلى ضواحي بغداد؛ رغبة في العيشِ والاستقرار.
هذا، وتدور الرّوايةُ أحداثها خلف السَّدة، وتصف مُعاناةَ النّاسِ، الذين يرزحون تحت وطأةِ الجوع، والتّشرّد، والحرمان، حيثُ العشوائيّاتُ، والبيوت الطّينيّة، والخدمات السّيئة.
رواية حافلة بالتّفاصيل الدّقيقة، تغوص في الوجعِ العراقيّ، وتكشف من خلالِ الرّاوي العليم بساطةَ الحياةِ، وطبيعة الواقعِ الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والسّياسيّ وتغيّراته.
وعلى هذا الأخير، فإنّ الرّوايةَ بالأساسِ تدور حول رئيس وزراء يعمل من أجلِ البلدة، غير أنّ المشكلات التي يُواجهها أكبر من طاقتِهِ على استيعابها؛ بسببِ المعارضة القويّة من دولٍ، وأحزابٍ، وشخصيّات، وشركات؛ بحيث ترى في وجوده خطرًا على المنطقةِ برمّتها، الذي لم يمهله الرّصاص كي يكملَ هتافه بحياةِ الشّعب الذي أحبّه.
القراءة الثقافيّة
يعدّ النّصّ الأدبيّ من منظارِ القراءةِ الثّقافيّة إشارة ذات مرجعيّة ثقافيّة وفكريّة، ومن المسلّمِ به في القراءة الثقافيّة أنّها غالبًا ما تدعو إلى الاهتمامِ بالظّروفِ التّاريخيّة، والاجتماعيّة، والسّياسيّة، وعلى ضَوءِ ذلك، تتأسسُ رواية "خَلف السَّدة" على المحمولاتِ الثقافيّةِ، ذلك من خلالِ منظومةِ القيمِ الثّقافيّة، حيثُ تستقطبُ جانبًا من الأعرافِ، والعاداتِ، والتّقاليدِ السّائدة، بعضها من المعتقدِ الدّينيّ، وبعضها الآخر من الموروثِ الشّعبيّ.
ومن المرجّح أنّ الكاتب يرى في صياغةِ عنوان روايته "خلف السَّدة"، أدق ملاءمة لفحوى تجربته إذا لو كان الأمرُ خلافَ ذلك، وانطلاقًا من هذه الملاحظة، فإنّ خلف السَّدة، مجتمعُ الرّوايةِ ومكانها.
من هذا المنطلق، أتاحت تجربة عبدالله صخي كشف جوانب الثّقافة وأثرها على الشّخصيّةِ لاسيّما العراقيّة، لتشكّل الثّقافة بأشيائها المتعددة من طقوس شيعيّة، وخرافات، وعادات، وتقاليد، مما كان علامة فكريّة في الرّواية، تُكشفُ بواسطتها فاعلية المنظومة الثقافيّة على الشّخصيّة.
على أنّ النّتيجة الّتي يصل إليها هذا التّصور، هي أنّ الرّاوي وقف من المنظومةِ الثّقافيّة موقف المتفرّج، دون أنْ يتجرّأ على نقدها، وفي أحسنِ الأحوال، وقف على خطّ الحياد في الرّواية، ولا مندوحة في ذلك، خصوصًا إذا ما أخذنا في الحسبانِ أنّه يُعدّ واحدًا من مكوّناتها، الّتي يحيل أصولهُ وتقاليده إليها.
وباختصارٍ، نُشير إلى أنّ الثقافة تبدو فاعلة وجليّة في رواية خلف السَّدة، حيثُ تتمظهر من خلالِ الطقوس الشّيعيّة، المتمثلة بـ إيقاعات الطّبول، والصّنوج المنبعثة من مكبّرات الصّوت، ومشاهد البيارق الملوّنة، والعمائم الخضر، والسّيوف اللامعة، والرّماح، والأقواس، والسّهام، ينضاف إلى ذلك، التّبرّع بعشرةِ فلوس بحبّ الزّهراء، وعشرين فلسًا لسيّد شباب أهل الجنّة، وعلى سبيلِ التمثيل ما نجدهُ في قولِ الرّاوي العليم/الشّاهد، حيثُ يقول: "كان سوادي حميد يجلسُ على الأرضِ ورأسه ملفوف بشاش أبيض مبقعٌ بالدّم من آثارِ ضربات السّيوف على الرّأسِ المنذور".
من الأهمّيةِ بمكانٍ التّذكير بالإضافةِ إلى ما تقدّم، بأنّ الثقافة في الرّوايةِ تستمد فاعليتها وتشكّلها من العادات، والتّقاليد، والأعراف الاجتماعيّة؛ ككسر بيضة عند قدمي العروس.
عطفًا على ما سبق، تستمد الثقافة فاعليتها وتشكّلها في روايةِ خلف السّدة، من خلالِ سلطة الممنوع والمحرّم، بحيث لا تستطيع حليمة ممارسة الحبّ مع عبد الحسين، إذ سرعان ما تذكرت حكاية كلثوم التي قتلت بسببِ شكوك إخوتها بأنّها تعشق شخصًا لم يتمكنوا من معرفته، حيثُ أخرج أحدُ إخوتها كفًا مقطوعًا وعرضها على الجميعِ، في إشارةٍ إلى أنّهم عثروا على كلثوم، وقتلوها؛ غسلًا للعارِ الذي لحقهم.
وبالإجمال، نستنتج من المنطوق السّردي السّابق أنّه يتمحور حول قضيّة اجتماعيّة؛ إذ إنّ إراقة الدّمِ انطلاقًا من نظرِ القراءة الثقافيّة، تصبح قيمة تطهيريّة، وبهذا يغدو القتل ممارسة سلوكيّة؛ تهدف إلى التّطهيرِ، وينجم عن تجاوزها في الثّقافة عارٌ أبديٌّ، لا يُمكن أن يمّحي من الذّاكرةِ إلّا بالقتلِ، وإراقة الدّماء.
وفقًا لذلك، جسّدت المرأة كضحيّةِ عرفٍ اجتماعيٍّ، تجربة الرّاوي الواقعيّة في ضوءِ صراعٍ مع سلطةِ الثقافةِ الاستبداديّة.
الذكورة والخرافة
علاوةً على ذلك، تتشكّل فاعلية الثقافةُ في الرّواية، عبر تكريسِ فكرة الذّكورة في مقابلِ توظيف الخرافة، أمّا الذكورة، فقد تجلّت بشخصيّةِ علي، والاهتمام الزّائد به، إذ نذرتْ مكيّة الحسن أمام جارتها قائلة: إنّها إذا أنجبت ولدًا ينجو من الموت، فستضع في مرقد سيّد جار الله دينارًا من أوّل مرتّب يتقاضاه في حياته.
في حين تمثل توظيف الخرافة، في الاعتقادِ بأنّ قتل الأفعى يجلب الشّؤم، وفي اللجوءِ إلى المشعوذين، فقد طلبتْ الغجرية من مكيّة الحسن، التي توفي أبناؤها الثلاثة، الواحد تلو الآخر، حفاظًا على ابنها أن تشرب بوله إذا أرادت له الحياة، فقد أمرت مكيّة ابنتها حليمة أن تجلب طاسة فارغة وراحت حليمة تضحك هازئة، وبعد أسابيع مات الطّفل، وأنجبت مكية طفلًا، وقررت أن تسمّيه عليًّا. وذات مرّة قالت لها عجوز: إنّها إذا أرادت له الحياة عليها أن تأكل قطعة من أذنه، وأمام دهشة سلمان اليونس وحليمة اجتزأت قطعة من أذن الصّغير الطرية، ووضعتها في لقمة خبز، وأكلتها! وهذه مشاهد قدّمناها على سبيلِ المثال لا على سبيلِ الحصر.
واستنتاجًا مما تقدّم، يمكنني القول: إنّ النّص الأدبيّ واقعة ثقافيّة، لهذا يقدّم الرّاوي في رواية خلف السّدة صورة سلبيّة للثقافة والمجتمع معًا، كما يمثل حياد الرّاوي في الرّواية سلوكًا واعيًا، يقصد من خلاله اتّقاء شرّ المجتمع الذي يحيل إليه، ويبدو جليًّا أنّ الحياد كان مسوغًا؛ إذ يمثّل موقفًا فكريًّا ثقافيًّا، من حيثُ ارتباطه بفكرة التّقية؛ لأنّ الخروج على تعاليم السّائد يجسّد في نظرِ ثقافة المجتمع والمعتقد انتهاكًا وتمرّدًا صارخًا.
بالنّهايةِ، نُشير إلى أنّ روايةَ خلف السَّدة، تجربة ناضجة للغاية؛ والرّاوي متمكّنٌ من أدواتِهِ السّردية، بحيث يفرض وجوده، والأفكار جاءت متسلسلة ومتماسكة، إذ تسيرُ في الرّوايةِ وفق نظامٍ زمني تراتبي في بناءِ الأحداث.
- باحث وناقد، حاصل على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
عبدالله صخي: خَلف السَّدة، ط1 ـ 2008م، دار المدى، دمشق.