خطابُ الجسدِ في شعر نائل اليعقوبابي

نائل اليعقوبابي

بادئ ذي بدء، يعدّ موضوع الجسد في الأدبيّات العربيّة من المواضيع الثقافيّة المسكوتة عنها؛ لاعتباراتٍ أخلاقيّة، ومواضعات اجتماعيّة، من حيثُ علاقتها بالتّابوهات، ذلك من خلال خرق ما هو مألوف ومعتاد، وبهذا المنظور، قد حاولتُ قدر الإمكانِ اتّخاذ موقف، يقترن بالحذرِ اتّجاه هذا الموضوع؛ لحساسيته.

والجسد إلى جانبِ كونه ذاتًا ماديّة إلاّ أنّه في البنيةِ العميقة يمثّل خطابًا ثقافيًا، ويؤدّي وظيفة تواصليّة وتعبيريّة، وانطلاقًا من هذا التّصور، يشكّل جسدُ المرأةِ في ديوان نائل اليعقوبابي الموسوم بـ "مهرًا لعينيها" كخطابٍ، ظاهرة بادية للعيان.

نائل اليعقوبابي، سوداني، وشاعر، وراوي، وكاتب أدب رحلات، رومانسي النّزعة، وهذا ما تنبّه إليه السّواحري في مقدّمة الدّيوان، غير أنّه يكتفي بهذه الإشارة، دون التّوضيح، لهذا نؤكّد لا فرق بين ما ذهبنا إليه، وما ذهب إليه السّواحري في أنّ اليعقوبابي رومانسي النّزعة، على الرّغم من أنّ  الحقيقة في هذه الإشارة جلية للقارئ العادي، لذلك أستطيعُ الزّعم في أنّ المرحوم السّواحري لم يتجاوز رؤيته سطح هذه الإشارة.

اكتسب موضوع المرأة في نصّ اليعقوبابي الشّعريّ حرارة وعناية، وقد وجد اليعقوبابي اتجاهًا رومانسيًا، لا يتخلّى عن المرأة، وكثيرًا ما تتحول القصيدة في نصوص اليعقوبابي الشّعريّة إلى احتفال بالجسد، وأغلب الظّن أنّ اليعقوبابي لا يخاطب المرأة في نصّه الشّعري بقدر ما يمتثل لنداء جسدها الفاتن، واللافت عند اليعقوبابي في هذه التّجربة الشّعريّة أنّه يقترب إلى حدّ كبير من شعراءَ هاموا بعالم المرأة، تمامًا كما لو أنّ القارئ في بعض نصوصه الشّعرية أمام عمر بن أبي ربيعة، ونزار قبّاني، وحسين مردان، ودونجوان، وبودلير، وغيرهم.

يعبّرُ اليعقوبابيّ في شعره عمّا يمور في سويداء قلبه، ودخيلاء النّفس، وإلى هذا المضمون يشير في قصيدة "رجاء" مخاطبًا امرأة أشاع حبّها في قلبه:

نامي على ساعـــدي فترةً

أرى الكون يضحك من برقع

يلحّ اليعقوبي في نصوص شعريّة على مدلول جسد المرأة الفاتن، عبر استخدامه الطّرح المباشر بديلا عن التّرميز، ضاربًا عرض الحائط بتقاليد المجتمع وأهدافه، غير مبالٍ في بعض الأحيان، لإشكالات المجتمع، ذلك من خلال تكرار الأعضاء الجسديّة، من مثل النّهد، والصّدر، والثّغر، والفم، والسّاق، والزّند، والخصر، والقد، والشّفاه، والخد، وإنّ قارئ قصيدة "أطياف راحلة" بشيء من النّظر والتّمعن، يكتشفُ أنّه أمام قصيدةٍ مفرطة بالجراءةِ، لشاعرٍ يكرّس نصّه الشّعري للمرأة، ليس إلّا، لا سيما جسدها، بما يمثله من جمال وفتنة، وتلافيًا للحرج الأخلاقي، لا داعي للتّمثيل على ذلك، لذا أكتفي بقوله:

سمراء والزهو بأعطافها

والفتنة السّاحرة الزّاهيهْ 

وقريب من هذا المضمون ما نجده في قصيدة "بغدادية"، حيث يستحضر اليعقوبابي المرأة بجسدها الفاتن، إذ يقول:

رفلتْ في ثوبها المخضوضر

فسبانـــــي حُسن ذاكَ المنظر

 وفي موضع آخر من القصيدة نفسها، يساوي الشّاعر بين خدّ المرأة والشّفق الأحمر الذي يظهر بعد غروب الشمس بما يحمله من جمال، حيث يقول:

خدّها الأحمر في روعته

ليس إلاّ كالشّفيق الأحمر

لا نعجب إذا وجدنا اليعقوبابي يكرّر مفردة المرأة كثيرًا، في الوقت الذي كتب ديوانه الشّعريّ كان خارج وطنه السّودان، متجولا بين العواصم والبلدان، لهذا، لا غرابة في ذكر المرأة ومحاورتها، يفضي إليها أسرار نفسه، وإذا أخذنا هذا في الحسبان إلى جانب ما سبق، عرفنا إلى أيّ حد كان شعره رومانسيّ النّزعة والمحتوى، يقول:

ليتنــــــــــي كنتُ عبيرًا عابقًا

في الشّفاه الحمر أو في الشَّعر

عوضًا عن ذلك، لا يفتأ اليعقوبابي يردد ذكر الأعضاء الجسديّة في نصّه الشعري، متمثلة بالقامة الهيفاء، والأنامل الملساء، ورشاقة القدّ، وجمال العينيين، وما سوى ذلك، مما يجعل شعره دائم البحث عن المرأة، إذ يقول في قصيدة "أوراق":

يدُكِ الحنون وقلبُكِ المتصلدُ

هذا يجور وهذه تتوّددُ

ونستخلص من هذا كلّه إلى أنّ الجسد كخطابٍ تعبيري، مجال اشتغال الهامش في الأدب، ويشكّل موضوعًا ثقافيًا، واحترازًا إذا أعدنا النّظر في بعض نصوص اليعقوبابي الشّعريّة، سنخرج بانطباع في أنّ نص اليعقوبابي نص جسداني بامتياز، ليتنزّل النصّ الشعري ـ في بعض الأحيان ـ تبعًا لذلك في دائرة الخروج على وقار السّائد، ولعلّ صدق هذا التأكيد يبدو في قصيدة اقتراب، وقد عبّرت عما لا سبيل للتّعبيرِ عنه، حيث يقول:

جعلتُ الصّدر مُتكئـي فقالتْ

فديتُك زد من القلب اقترابا

إنّ من أبرز تجلّيات الجسد في شعر اليعقوبابي ذكرُ المرأة في مواضعَ شتّى من النصوص الشعرية، ويتمثل بالجمال الفاتن والسّاحر، إذ يقول في قصيدة "الفستان الوردي":

مرّتْ، فألهب حسنها وجدي

تختالُ في فستانــها الوردي

والبسمة العذراء مشرقـــة

في ثغرها المغمورِ بالشّـهدِ

ينهض موضوع الجسد لينوب عن الأنا الشّاعرة في التّعبير عن الوجدان والمشاعر الدّفينة، واستدعاء الشّاعر الجسد بوصفه خطابا، ذلك بما يثيره من غواية، وإغراء، وفتنة، يقول في قصيدة "حلوة العينين":

سمــــراء ملء شفاها نغمٌ

يهب الجمال حديثها العطرُ

لسنا في حاجةٍ إلى دليلٍ آخر على اعتماد الشّاعر في ما يمكن أن نسّميه بـ شعرية الجسد، وعلى أيّ حال، إنّ مثل هذا التّوصيف يوضّح بما لا يدع مجالاً للشّك أنّ الشّاعر يستمد مادته الشّعريّة في البوح والتّعبير عن رؤيته ومكنوناته النفسية اتجاه المرأة من خلال الاتّكاء على الجسد الذي يعدّ إلى جانب كونه خطابًا وجسر التّواصل.  

لا نجدُ ما نختم به هذه المقالة عن هذا الدّيوان خيرًا من قصيدة "مهرًا لعينييها"، حيث يقول:

فتنةُ الحبّ ألهمينـي

قبلة من ذي الجبينِ

يتجلّى السحر نـورًا

أي سحرٍ خبّرينــــي

 

وبكلمةٍ أكثر إيجازًا، يظهر من خلال النّصوصِ الشّعريّة المُنتقاة احتفاءُ الشّاعرِ بالجسد، إذ يشكّل الجسد من منطوق النّص الشّعري ـ لا من منطوق الباحث والنّاقد ـ كوسيلةٍ ناجحة وناجعة لإفراغ المشاعر والانفعالات المكبوتة، ولا ريب في أنّ تجربة اليعقوبي الشّعريّة في هذا الدّيوان، تستدعي وقفة أطول من هذه الوقفة أمام نصٍّ شعري مكتنز بالدّلالات.

باحث وناقد مستقل ـ الأردن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر 

• نائل اليعقوبابي: مهرًا لعينيها، ط1 ـ 1996، دار الكرمل للنّشر والتوزيع، عمّان.

 

أضف تعليقك
أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.