بين هايدغر وسلوترديك: من نحن بمصطلحات الجينات

بين هايدغر وسلوترديك: من نحن بمصطلحات الجينات
الرابط المختصر

لفت  الفيلسوف الألماني المعاصر بيتر سلوترديك الأنظار إليه بقوة عندما القي محاضرته المثيرة للجدل والتي تحمل عنوانا صادما (قواعد الحظيرة البشرية: في الرد على مقالة (الإنسانية) لهايدغر في 20 يوليو 1999 في ندوة مخصصة لمناقشة فلسفة هايدغر.

 

تطرح المقالة ـ كما جاء في مقدمة النسخة المترجمة إلى الإنجليزية والتي سنعتمد عليها في هذه الدراسة تساؤلات أساسية عن الغرض من السياسة، والحكم، والتكافل المدني؛ فقد تم إدراك السياسة جزئيا بوصفها ضرورة لـ"ترويض" البشر ليصبحوا مواطنين صالحين وذلك منذ أفلاطون. وهكذا فان سلوترديك يتبع نيتشه وهايدغر في تصوير الإنسانية باعتبارها طرفا في " معركة ثابتة. . . بين البهيمية وترويض النزعات ". فالبشر "ذئاب" مع بعضهم البعض، ولكن ما الذي يحول الذئاب إلى كلاب ودودة موالية؟ تزعم مقالة الإنسانية أن "قراءة الكتب الجيدة " هي التي "تهدئ الوحشية الداخلية". الكتب العظيمة، و"الرسائل السميكة" من مفكر عظيم إلى آخر، والتي توفر "نموذج الحكمة"، الذي يمكن "الإنسان من رعاية أخيه الإنسان". ولكن الحكماء على ما يرى سلوترديك قد تخلو عنا في الوقت الحاضر ولم يعد للإنسانية سوى تلك المحفوظات والمؤرشفين ـ وليس الحكماء أو الإنسانيون ـ الذين يقلبون تلك المحفوظات والرسائل سميكة. وعليه فإن الإنسانية تسير نحو الأرشفة بخطى ثابتة.

 

يحاول سلوترديك في المقالة تطوير تفسير هايدغر للإنسانية باقتراح انثروبولوجيا تقابلية لا ميتافيزيقية non-metaphysical onto-anthropology. وقبل أن يخوض في تفاصيل اقتراحه وضح سلوترديك كيف يمكن أن تُفهم الإنسانية من خلال ناقلها أو وسيطها medium وتحديدا الأدب. وتبعا لذلك فإن هذا الناقل يؤثر على الإنسانية ذاتها ومن المثير أن نتساءل هل الإنسانية تتشكل بفاعلية بواسطة محتواها (الجوهر الإنساني) أو بسلبية من خلال شكلها (الناقل أو الوسيط). تبدو المشكلة هنا مشكلة تحولات وانعطافات turns، مشكلة السلبية والإيجابية في الطبيعة البشرية ولذا فإننا سنقارب أفكار سلوترديك في تاريخ الإنسانية من هذا المنظور.

فوفقا لسلوترديك كانت الإنسانية قد "أسست الصداقة والحب من خلال الاتصالات السلكية واللاسلكية حين كانت الكتابة هي الناقل الوسيط" والتي أنشأت نظامنا المعروف للمجتمعات. كان بإمكان الإنسانية أن تبنى من خلال النتاج الفكري الأدب على نحو خاص ـ الأساس لمؤسسات مثل دوائر القراءة والمدارس والجامعات والأحزاب والدول. ولذلك يخلص سلوترديك إلى القول :"ومن هنا كانت الأمم البرجوازية منتجات حرفية وبريدية بدرجة معينة" وبعبارة أخرى فإن ربط فكر الأعضاء في مجتمع ما بواسطة احتياجاتهم الخاصة (الأبجدية هنا أو الكتابة)، يمكن الإنسانية من التأثير على شكل المجتمعات. علاوة على ذلك فإن الإنسانية بطلبها واحتياجها للتعليم طرحت قضية "الميول البهيمية والترويض"، لأن ناقل الإنسانية وضع الحدود بين البربرية والحضارة من خلال سؤال واحد بسيط: من هو القادر على القراءة والكتابة؟

 

ولكن اختراع وسائل الإعلام، أضعف تأثير الإنسانية واستبدلها جزئيا بقوى جبارة. لم تعد الصداقات ـ بعد إدخال الصحف والتلغراف، وأجهزة الراديو والتلفزيون ـ تنشأ عن طريق إرسال الكتب عبر المسافات الطويلة والأجيال. ومن هنا ف"التراكيب السياسية والاقتصادية الكبيرة " نظمت وفقا لنماذج أخرى عن تلك التي سادت المجتمع الحرفي (نسبة إلى الحروف).

 

هكذا فإن ما يخلص إليه سلوترديك هو أن الإنسانية ليست متأصلة تماما في جوهر البشر، لكنها تعتمد على درجة معينة من النواقل، الأدب تحديدا. وهذا يعني أن التعليم هو الذي يشكل المجتمع ويربط أعضاءه المتعلمين بروابط الصداقة والتكافل. ومع ذلك، فإن هناك سؤال يطرح نفسه وهو هل أن المعايير التي تتكرر هي مجرد نتاج لهذا التكرار؟ لأنه إذا كانت الإنسانية تنتج بالتكرار فقط، فقد يكون هناك خطر من أن تنتج بغض النظر عن محتواها.

 

ناقش مارتن هايدغر أيضا هذه الأخطار في رسالته عن الإنسانية التي نشرت عام 1946. والتي لخصها سلوترديك وانتقدها في مقالته.

 

اهتم هايدغر بموضوع الانتقال من ready-to-handness إلى present-at-handness، أو كما يمكن أن نحددها بوصفها التخلص من الأنطولوجية الضمنية في العالم والحياة إلى مفاهيم فينومينولوجية صريحة حيث تؤمن حقيقة هذه المفاهيم من قبل الكينونة فحسب. بيد أن خطر تكرار المفاهيم الإنسانية هو تتحللها إلى مجرد نظام من الكينونة المحتجبة. أطلق هايدغر على هذه النظم الأنطولوجيات الميتافيزيقية. وبسبب ذلك رفض هايدغر المسيحية، والماركسية والوجودية. هذه النظم الإنسانية التي لا علاقة بالكينونة بل إنها تخفي السؤال الأصلي من خلال تكرار المفاهيم الميتافيزيقية الأوربية، وتحديدا في هذا السياق مفهوم المنطق الحيواني rational animal. تعامل هذه النظم الإنسانية البشر بوصفهم أشياء. وبدلا من أن تكون فضاء مفتوحا لقضية الكينونة، وتحت تأثير هذا التشيؤ، دعمت الإنسانية كل القسوة التي كانت ترتكب باسم الطبيعة البشرية. ولذلك كانت جميع أنواع الإنسانية بالنسبة لهايدغر مجرد تاريخ من الذاتية الميتافيزيقية ولذلك جرى إنكارها. تحدث سلوترديك عن رفض هايدغر لهذه الإجابات الميتافيزيقية للإنسانية، وعلاوة على ذلك أبرز خلفية طرح هايدغر للقضايا الأنثروبولوجية: اللغة، أو على حد تعبير هايدغر، بيت الكينونة. ومع ذلك، فإن الرد على أسئلة أنثروبولوجية بتوظيف اللغة يؤدي إلى نظام ميتافيزيقي. ولأن هايدغر قد توقع هذا الخطر فإنه يعطي البديل: انتظار استدعاء الكينونة في بيت اللغة. لتصبح اللغة بذلك رمزا أخلاقيا tropological figure كما الأفق المتسامي أو المكان الذي تستطيع الكينونة أن تصل إليه، إذا ما كان لها أن تصل.

 

إلا أن البشر لا يستطيعون أن يقرروا بفاعلية من هم. وبفضل طبيعتهم المفتوحة فإنهم ينتظرون بسلبية لأن يكونوا أنفسهم بفاعلية. يكتب سلوترديك بهذا الخصوص: "يرتقي هايدغر بالكينونة من خلال هذا الطرح إلى درجة المؤلف الوحيد لجميع ا لرسائل الجوهرية ويضع نفسه في مكانة أمينها" .

 

يستنتج سلوترديك من فهم هايدغر للبشر بوصفهم انفتاحا مترددا في اللغة، ومن قضية الكيفية التي يتم تشكيل المجتمعات تحت تأثير ضعف الإنسانية،وهنا يكون السؤال: "من يروض أو يعلم البشر؟ إذ لايزال من غير الواضح بعد كل تجارب تعليم البشرية من هو المعلم وماذا يعلم ؟ وبذلك يحول سلوترديك تفسير هايدغر للبشر إلى مسألة: كيف يمكننا التعامل مع المجتمعات عندما نتناول الطبيعة البشرية بوصفها غير قابلة للتحديد؟

 

يرى هايدغر أنه طالما أننا لا نستطيع تحديد البشر بفاعلية دون الانجراف في النظم الميتافيزيقية، فإننا سنتابع الموقف السلبي: انتظار الكينونة. ولكن هل يقدم هايدغر بهذا الموقف حلا عمليا لمشاكل المجتمعات؟ وهل يعتقد حقا أنه سيتم حل المشاكل من خلال الإنصات بشكل سلبي إلى الشيء الحقيقي (الوجود)؟ يتساءل سلوترديك مواصلا انتقاده لهايدغر. ثم يركز في محاولة منه لتطوير موقف هايدغر على إيمانه بتمايز البشر عن مجرد الوجود للكائنات الأخرى.

 

يقول : "هناك قصة يتم تجاهلها من قبل هايدغر بإصرار تتعلق بانبثاق البشر إلى المساحة الفارغة ـ قصة اجتماعية عن مقاربة البشرية من خلال قضية الكينونة والتقلب التاريخي في نشوة التمايز الأنطولوجي ".

 

هذا يعني أنه على الرغم من أن هايدغر يركز في فلسفته بشكل مكثف على مركز مسعاه التأويلي (Dasein،الكينونة)، فإنه يغفل أن البشر يختبرون مجيئهم إلى العالم من خلال وساطة اللغة، أو على حد تعبير سلوترديك قصة "السير في بيت الكينونة ". وبهذا فإن سلوترديك يحاول أن يظهر أن البشر لا يكونون في انفتاحهم (في العالم) مباشرة، بل من خلال وسائطهم، بهذا فإنهم يكونون في مأزق البت في ما لا يستطيعون البت فيه، عندما يكونون مضطرين إلى اتخاذ القرار (مشكلة التحولات أو الانعطافات) . وبعبارة أخرى، فإن سلوترديك ينزع صبغة التسامي de-transcendentalizes عن فكرة هايدغر المتمثلة في الانتظار في المساحة الفارغة أو الانفتاح عن طريق مناقشة كيفية أن الوسيط "اللغة" أصبحت مكانا لهذا الانفتاح حيث يمارس البشر اكتشاف العالم وأنفسهم.

 

ويرى سلوترديك أن فسحة اللغة التي يدخل من خلالها البشر إلى الكينونة بوصفها لحظة بدء التاريخ الثقافي. فيقول: "الكينونة في الفسحة clearance (Lichtung) هي حدث على حدود تاريخ الطبيعة والثقافة، وذلك لأن الإنسان القادم إلى العالم يتميز من مرحلة مبكرة بوصفه قادما إلى اللغة.

 

وبذلك فإن سلوترديك يجلب الكائن الحقيقي للتحقيق: اللغة الإنسانية حيث يجري تدجين الكينونة - وسيلة التي يوظفها الناس بفاعلية وينتمون إليها بسلبية. لم يكن سلوترديك ليثير ضجة حول ورقته لو أنه اكتفى بذلك ولكنه ذهب أبعد من ذلك كثيرا حين طرح فكرة الأنثربولوجيا المقابلة Onto-Anthropologyوتحسين النسل Eugenetics.

 

يبحث سلوترديك عن سبب أعمق لوجود البشر في حالة مساءلة دائمة وعلاوة على ذلك فإنه يتساءل عن الوسيط أو الناقل الذي تحدث فيه هذه المساءلة. كانت الكتابة هي الوسيط الأول التي سببت الإنسانية أو تسببت بها. ومع ذلك، فقدت الإنسانية نفوذها الكتابي مع ظهور وسائل الإعلام الجديدة. وبهذا فإن التقنيات الحديثة مثل علم تحسين النسل تطرح مسألة الكينونة البشرية بوصفها وسيط أو ناقل جديد. جلبت قدرات القراءة والكتابة المجتمعات إلى القدرة على قراءة الجينوم البشري، ولأن هناك مسافة صغيرة بين الترويض lections (taming) والانتقاء selections (breeding)، فإنه يحق لنا أن نتساءل من نحن بمصطلحات الجينات ؟ لقد أصبحت الجينات وسيطا مشابها للكتب ومع ذلك، يمكن للجميع كتابة الكتب بوصفها مقترحات "إنسانية" لتثقيف المجتمع، ولكن هل يمكن لأي أحد كتابة الجينوم؟ ومن شأن إجابة بسيطة بـ"لا" إهمال العملية التعليمية التي أوصلتنا إلى هنا الآن، وتحديدا الإلزام المعروف جيدا : كن مستقلا، ثقف نفسك وامنح نفسك قانونًا!

 

ولأن مشاكل تحسين النسل ترتبط بطريقة وجود البشر من خلال مجيئهم إلى لغات معينة، فإن تحسين النسل هو جزء من مشكلة التحول أو الانعطاف ولا يمكن أن يكون قابلا للحسم ببساطة. ويمكن الآن تلخيص مشكلة التحول على النحو التالي : لا نستطيع أن نقول إن الناس يعلمون أنفسهم أو يتلقون تعليمهم من قبل شيء آخر، كذلك لا نستطيع أن نقول إننا جيناتنا ولا أننا لسنا هي تماما كما حولها سلوترديك إلى مسألة ترويض وتربية: البشر لا يحبرون على البقاء في الحظيرة السياسية كما أنهم لا يبقون أنفسهم فيها.

 

بالعودة إلى اللغة بوصفها وسيط نجد منطق خاصا للمشكلات المتضمنة. فمثلا مع كل المزايا التي جلبتها لنا اللغة بوصفها وسيطا، ألا أنها جلبت مشكلاتها الخاصة مثل نظريات الأزمة وتحديدا الانطولوجية والابستمولوجية. فالتحركات داخل بيت الكينونة (اللغة) فتح ساحة المعركة بالنسبة لمسألة ما الذي يجب على الناس القيام ؛ ما هي الأخلاق والآداب، وكيف ينبغي أن يكون تعليم البشر.

 

ومن ثم فإنه يمكننا الزعم أن المشكلة المنهجية في المجيء من الحياة العالم إلى المفاهيم الصريحة (المشكلة الابستمولوجية في استنتاج أنطولوجيا محكمة وموثوقة) يؤثر علينا حين نوظف اللغة بوصفها وسيطا لا نستطيع السيطرة عليه بالكامل. لذلك فإن سلوترديك يحذرنا أن هناك قوة خلف الترويض والتهذيب، خلافا للتفسيرات الخاطئة، ولهذا فإنه يطالب بصياغة دستور codex من الأنثرو ـ تقانات anthropo-technics وفقا لمنطق المشاكل، ووفقا لمنطق الجينوم الذي هو وسيط جديد لقضية التحولات، ولكنه لا يزال في مجال اللغة.

أضف تعليقك