الأسس الفلسفية والميتافيزيقية لما بعد الحداثة

الأسس الفلسفية والميتافيزيقية لما بعد الحداثة
الرابط المختصر

ربما كان التحديد الذي حظي بما يشبه الإجماع لما بعد الحداثة هو أنها ضد الحداثة Anti-modern. وبذلك يمكننا القول إن ما بعد الحداثة قد نبذت الأسس المعرفية والميتافيزيقية التي قامت عليها الحداثة. فمن الناحية المعرفية، رفضت ما بعد الحداثة سعي التنوير نحو المعرفة الموضوعية وما يترتب عليها من أُسسية ومرجعية. وتمثل هذا الرفض في أسس مشروع دريدا التفكيكي: وهو منهج تحليل للنصوص ينطبق على جميع الكتابة ـ والفلسفة ليست أكثر من مجرد كتابة ابداعية ـ ويسعى من خلال سلسلة من الاستراتيجيات المثيرة للجدل إلى الكشف عن عدم استقرار المعنى المتأصل وإبهامه وعدم وضوحه. وأحد أهدافه الرئيسية لفت الانتباه إلى الخاصية النصية التي لا مفر منها في جميع الكتابات الفلسفية، والتي يحاول معظم الفلاسفة إنكارها، معتبرا إياها حجة خالصة Pure Argument. إن أفضل السبل لمقاربة التفكيكية هو بوصفها شكل من أشكال التشكيك الجذري Radical Scepticism وضد الأُسسية Antifoundationalism.

 

اتخذ دريدا موقفًا معارضا من الفلسفة الغربية منذ أفلاطون بسبب التزامها غير المقبول بـ ميتافيزيقيا الحضورMetaphysics of Presence، والاعتقاد بأن المعنى مستقر أساسا، ومحدد ويمكن إدراكه في مجمله. وبهذا المعنى فإن الفلسفة الغربية متمركزة حول اللوغوس logocentrist: فكرة أن الفهم والمعنى يمكن أن يُمنح نقطة مرجعية ثابتة من خلال تأسيسه في اللوغوس، أو في سمات ثابتة أو مبادئ للحقيقة، وبكلمات أخرى في الحضور. رفض دريدا فكرة التمركز حول اللوغوس، وبذلك فإن التفكيك يبدأ عمله بالتخلص من مركزية العقل في وظيفة اللغة. وبذلك جنحت ما بعد الحداثة نحو المذهب الكلي Holism الذي لا يرى المعتقدات مرتكزة على أسس متينة ولكنها مدعمة بفضل علاقاتها بمعتقدات أخرى، وبالكل في نهاية المطاف.

 

وضع لويلارد فان أورمان كواين (1908-2000) نموذجا أبستومولوجيا يقول بأن الحقيقة الواعية تدرك بوصفها شبكة من خبرات متداخلة. وفي شبكة الخبرات المتداخلة هذه، تتعزز الأفكار المشتركة وتترابط لدعم بعضهما البعض بطريقة تعطي بعض الأفكار أسبقية في تماسك الشبكة. ومع الكلانية فإن أيا من المعتقدات لا يمكن إلا أن يكون قابلا للتنقيح والتعديل.

 

وبكلمات مورفي فإن "المعتقدات تختلف فقط باختلاف بعدها عن الخبرة، التي تمنح (شروط /حدود) المعرفة" . وهكذا فإن سمات المذهب الكلي هي: التعددية Plurality، والمنظورية Perspective، والقابلية للتعديلCorrigibility، والعملاتية Process).

 

وهناك تحولات أبستمولوجية أخرى وسمت ما بعد الحداثة نذكر منها:

أولا: التحول من الاهتمام بالمعنى بوصفة مرجعية إلى الاهتمام به بوصفه توظيفًا. فقد وضعت أعمال لودفيج فيتجينشتاين، وجون لانغش، وأوستن الأساس لفلسفة جديدة في اللغة. تأثر فيتجنيشتاين في بداياته بالوضعية المنطقية: بمعنى أن اللغة تعين الحقائق. ولكنه عاد فيما بعد ليفسر اللغة على غرار الألعاب. كل توظيف للغة يشكل لعبة بقوانينها الخاصة. وهكذا فإن الجملة تحتمل العديد من المعاني تبعًا للسياقات التي يجري توظيفها فيها. والمعنى هو دالة دور اللغة في نظام الاتفاقيات: التطبيقات والاداءات اللغوية وغير اللغوية. والنتيجة أن المعنى سياقي، وأن اللغة لا تهدف بالضرورة إلى حالة الحقيقة الموضوعية للظاهرة.

 

ثانيا: التشكيك في السرديات الكبرى، بمعنى التخلي عن سعي التنوير إلى معرفة شاملة على أساس العقل. وتعد قضية السرديات الكبرى في بعد الحداثة قضية هامة خصوصا عند مقارنتها بالحداثة التي احتل فيها العقل مكانة جليلة وكان له القول الفصل في تحديد أو استبعاد ما يمكن أن نطلق عليه معرفة. وبذلك فإن العقلانية التنويرية هي التي حددت السرديات الكبرى. ولكن ما بعد الحداثة زعمت أن كل المعرفة البشرية مسيقنة ومحلية وخاصة تاريخيًا، مما أدى إلى تطوير ما يطلق عليه الأطروحة السياقية  Contextual thesis. ويري ألن ديوجين أنه ـ وفي ظل فرض حظر على جميع السرديات الكبرى ـ فإن الاستنتاج الذي لا مفر منه هو أن "كل فهم للحقيقة لا يكون إلا بدلالة التاريخ والثقافة". علاوة على ذلك، يلاحظ ديوجين "أن هذه النسبية قوية وفاعلة لدرجة أننا لا نبني فقط حقيقة مختلفة باختلاف العصور والمجتمعات فحسب، ولكننا لن نقوم بأي شيء حيال محاولة كل فرد بناء حقيقته بطريقته الخاصة ". ومن الواضح إذا أن نتيجة هدم السرديات الكبرى التي لا مفر منها هي التعددية.

 

الميتافيزيقيات في ما بعد الحداثة

 

تتمثل الحداثة ميتافيزيقيا بما يمكن أن نطلق عليه الميتافيزيقيات المضادة للحقيقية Anti-realist metaphysics. بمعنى أنها الرأي القائل بأن وجود الأشياء، يعتمد على التفكير والخبرة واللغة. وبعبارة أخرى، فإننا لا نواجه عالمًا معطى ببساطة، ولكننا نواجه عالمًا نركبه بنشاط عن طريق استخدام مفاهيم نأتي بها إليه. ويمثل هذا الرأي رفضًا لمفهوم الجوهرية الفلسفي Essentialism، الذي يقول بأن هناك بعض المعاني المثالية. وقد عرض دريدا رفضه للواقعية Realism أو الجوهرية Essentialism في سياق فكرته من الاختلاف. فالواقعية أو الجوهرية تتطلب ـ من الناحية الفلسفية ـ مركزًا. وقد فُسر هذا المركز في تاريخ الميتافيزيقيا بشكل مختلف من قبل أنظمة فلسفية مختلفة. ولكن دريدا، الصوت الأبرز فكريًا في ما بعد الحداثة، يرفض فكرة وجود مركز ويلاحظ أنه "من الضروري ـ من الآن فصاعدا ـ البدء في التفكير أنه لا يوجد أي مركز، وأنه لا يمكن أن نفكر في المركز بوصفه شكلًا من الكينونة الحاضرة Present-being، وأنه لا يوجد للمركز أي مكان طبيعي، وأنه ليس موضعا ثابتا ولكنه وظيفة: نوع من(اللا ـ موضع) فيه عدد لا حصر له من تبديلات العلامات Sign-substitutions التي لا بد أن تُؤخذ في عين الاعتبار".

 

وعلى الرغم من أن (ضد الحقيقة) أو (ضد الواقعية) ميتافيزيقية ضرورية من حيث ارتباطها بالمذهب الكلي أبستومولوجيا، فإن التطور في الفيزياء الكوانتية عزز برنامج (ضد الواقعية). فلم يعد العلم قادرًا على دعم فيزياء الجسيمات النيوتونية المتركزة بوصفها كيانات ذات جوهر ثابت، وبدلاً من ذلك فإن الحقيقة الفيزيائية ديناميكية: أي أن الكون ليس كيانا موجودًا له تاريخ ولكنه هو تاريخ بحد ذاته (أنه أكون متعددة a multiverse). والعالم ليس خلق منته creation بقدر ما أنه استمرارية في الخلق creating)).

 

لاقت التعددية المتضمنة في الفهم الجديد للعلوم بشأن الواقع المادي، صدى فلسفيًا في إعادة بناء مارتن هايدغر لطبيعة الحقيقة المطلقة. تمثل فلسفة هايدجر نقطة التحول إلى ما بعد الحداثة. وقد لقي مفهومه الديزاين Dasein بمعنى حضور الكون أو معنى الكينونة أو الحقيقة الإنسانية أهمية خاصة بوصفه التمثيل الأساسي للكينونة. وبوصفه وسيلة زمانية وعلائقية للكائن في العالم، فإن الديزاين يمثل خروجا عن تفسير الفلسفة الكلاسيكية للكينونة الخالدة. ومن الناحية الفلسفية تفترض ما بعد الحداثة ـ في بحثها عن الحقيقة ـ وجود تفسير زمني للقاعدة التي يجب أن تفهم الحقيقة استنادا إليها، وتسهم فلسفة هايدغر الوجودية في توفير أسس ميتافيزيقية لمثل هذه الخطوة. ومع ذلك، فإن تفسير الحقيقة المطلقة بمصطلحات زمانية هو افتراض أساسي ذو أهمية تأويلية كبيرة. وقد كانت نتيجته بفضل ما بعد الحداثة هي: التعددية.

 

وبذلك فإن ما بعد الحداثة من وجهة نظر المنظر الثقافي الأمريكي راؤول إيشلمان ربوبية Deist وغنوصية Gnostic في مقابل الواحدية الحداثية المتشددة. إذ بدلا من أن ترى العالم بمصطلحات الخالق /الشخص وتقليد هذا الخالق، فإن ما بعد الحداثة تتعامل معه بوصفه كلًا ديناميكيًا حيويًا يتطور ويتحول باستمرار(الإله غير الشخصي للربوبية) ويتكون من أجزاء متساوية غير ثابتة تسمح بإدراك مؤقت وغير كامل لاشتغالات الكل. ويهدف ما بعد الحداثيين إلى أن يعرفوا فحسب، لا أن يؤمنوا أو أن يستفيدوا من تدفق الطاقة حول العالم. ويلاحظ إيشلمان أن واحدًا من أهم المنظريين السينمائيين في ما بعد الحداثة: جيل دولوز يقتبس مفاهيمه من الفلاسفة الربوبيين أمثال ليبينز وبرغسون.

 

أما جاك دريدا فيلسوف اللغة الأهم في ما بعد الحداثة فإنه يلتزم بفكرة أقرب ما تكون إلى الفكرة الغنوصية: البحث عن الحقيقة. إنه يتعقب الآثار الجوهرية المبعثرة للمعرفة، بدلا من أن يحاول تمثيل جوهر حقيقة متعالية واحدة.

 

*باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدرلها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1. أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014

2. الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3. نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013

4. فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

 

أضف تعليقك