ليسوا وجهين لذات العملة

الرابط المختصر

أكثر ما يخشاه من يعيشون حالة الإنكار لما يتضمّنه تاريخنا وتراثنا من تناقضات هو تحطّم التمثال الذي يشكّل المثال على المثالية التي تعلمناها عن السلف ولم نعرف عنهم غيرها.

كثيرة هي القصص والحكايا عن تسامح وسماحة فلان ورأفة ورحمة علان، وقليلة على كثرتها درايتنا بالقصص التي تروي الجانب الآخر لأهل السماح والسماحة حيث هم عتاة في انتهاك حقوق الإنسان وامتهان كرامة المرأة والرجل والأطفال.

لا يكاد يخلو وفاض كبار السلف من الجواري والإماء اللاتي كانوا يعاشروهن معاشرة الأزواج ويبيعهن ويشتريهن من الأسواق كما تباع الإبل وتشترى، كما لم يكد يخلُ بيت في زمن فات من زوجة لم تبلغ الخامسة عشر من عمرها، أي أنها قد تزوجت وحملت وهي في الثانية أو الثالثة عشر؛ يعني في سن التعليم الابتدائي!

 لقد بلغت الرحمة بالرحماء أن اقتحموا على شعوب مسالمة بلدانهم وأوطانهم فعاثوا فيها فساداً وكان من عظيم رحمتهم أن خيّروا ضحاياهم بين القتل والاغتصاب لنسائهم تحت عنوان “الغنائم والسبي” واسترقاق أطفالهم، وبين دفع الأتاوة السنوية تماماً كما كان يفعل فُتوات حي الجمالية والحسين وبولاق في قاهرة المعز حتى مطلع القرن العشرين وكما يفعل العديد من فُتوات هذا الزمان الذين بات لهم تشريعات ومسميات تجمّلهم وتحميهم، ولا يبدو مقنعاً تبرير البعض لهذه الأتاوة بأنها “بدل حماية ورعاية للمفروضة عليهم” إذ أنه من التناقض البيّن أن تهاجم مجموعة من أقاصي الأرض مجموعةً آمنةً لم ترفع سلاحاً في وجه أحد ثم يُقال لهم “درهمونا تأمنونا”!

إن الجهد الكبير الذي يبذله المنافحون عن الوجه الآخر لمجموعات وشخصيات تاريخية أبت مناهج التربية والتعليم وسفراء وزارات الأوقاف فوق المنابر إلا أن تخفي وجوهها البشعة وتبرز وجهها الآخر “المشرق” مع كثير من مساحيق التجميل المغلفة بعبارات البهرجة والزخرفة المنطوية على كثير من الترهيب لكل من حدثته نفسه حول الأعظم مما خفي، لتبرهن على وجود أزمة قيمية وثقافية حقيقية يجبن الكثيرون عن مواجهتها ويؤثرون عوضاً عن ذلك القفز فوقها ومحاولة طمسها من خلال التعتيم والتكتم لتبقى الحقيقة ناراً تحت رماد لا يقوى على الصمود أمام رياح الفكر الحر والتفكر المشروع في كل ما يُملى علينا من أساتذة المدارس والجامعات وخطباء الجمعة والأعياد.

لا يمكن إنكار صعوبة أن يتزحزح المرء عمّا شبّ وشاب عليه من صور نمطية وقصص خيالية عن بطولة وشجاعة وسماحة ورأفة ورحمة فلان أو علان، إذ إن الوجدان الثقافي الذي تشكّل ونما على هذه القصص والحكايا ولم تتح له مساحة التفكير والتدبر والبحث، سوف لن يقبل أن يتنازل عن ما بات يشكل لديه عنوان الحقيقة المطلقة واليقين العيني، وليس المطلوب تغيير ما يظن المرء بأنه حق اليقين وصميم الحقيقة، وإنما المراد هو تنشأة جيل يعتمد البحث والتحليل وإعمال العقل والقراءة النقدية الهادفة للوصول للحقيقة ولو كانت موثقةً من أكثر من شخص ممن فصّلوا وطرّزوا كتب التاريخ وفقاً لمقتضيات ومتطلبات السياسة والساسة في عهدهم وزمانهم، لكن مهلاً.. فثمة عقبة أخرى يبدو تجاوزها أصعب من كل ما تم ذكره في هذا المقام، إذ إن التفكر والتدبر محدد المواضيع سلفاً ومقيد بضوابط يعد تجاوزها ذنباً غير مغفور، فالعقل إذا تعارض مع النقل “قطعي الثبوت قطعي الدلالة” بات إعمال العقل يشكل كفراً بواحاً يستوجب استتابت صاحبه، وهكذا تكتمل الحلقة المفرغة التي دارت وتدور بها أجيال ولا انفكاك منها إلا بثورة فكرية تعتمد العقل والمنهج العلمي في استقراء الماضي والحاضر والمستقبل.

 فليقدس من شاء ما شاء، لكن الثبات ليس من صفة البشر أياً كانت منزلتهم ومكانتهم وطبيعة مهمتهم، ولا يوجد عملة بوجه واحد، وما من شخص يمكن وصفه بأنه يمثل وجهين لذات العملة.

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك