فوق الحبل
يتطلب تلميع الصورة العامة للدول التي ترعى الفكر المتطرّف في مناهجها التعليمية وممارساتها المؤسسية والفردية؛ أن تتحدث بلغة أخرى أمام الدول التي أبرمت عقدها الاجتماعي على منظومة من القيم قوامها التنوع والاختلاف وقبول الآخر حتى لو كان هذا الآخر يناهض أساس العقد الاجتماعي المبرم.
يستمد العديد من أهل الحل والعقد في العالم الإسلامي مشروعية سلطته من خلفية دينية حلّت محل الأصل الديمقراطي الذي يأتي بالحكام ويذهب بهم تبعاً لاختيار الشعوب، هذا الأصل الذي يمثّل الاستثناء عندنا ونحتفل به من حين إلى آخر مثل هلال العيد مع كل قانون انتخاب مركزي أو لا مركزي بغض النظر عمّا يشوب مثل هذا القانون من عوار ونواقص، فلهم العنوان والبروباغندا الإعلامية التي تصاحب سنّه وتطبيقه.
مقاومة عامة الناس لمحاولات إعادة قراءة التاريخ الديني مبعثه الخوف من صدمة ثقافية وزلزال فكري سوف يطيح بعديد من الثوابت التي تستمد ثباتها من الاعتقاد العشوائي غير المدروس بها من السواد الأعظم من الناس، في حين أن الأمر يختلف عند أهل الحل والعقد الذين يمثل الإصلاح الديني والثورة الفكرية تهديداً وجودياً لهم ولسلطتهم، إذ من شأنه أن يقوّض شرعية وجودهم واعتلائهم سدة الحكم حيث يحكمون ويتحكمون باسم الدين ومن أجله وبناءً على تفويض إلهي متوارث، فماذا عسى هؤلاء فاعلين إذا تبيّن مثلاً أن التاريخ الإسلامي الذي وصلنا قد تمت كتابته في عصور لاحقة وتحديداً في عهد الدولة الأموية التي تقطع المخطوطات والمقارنات والمقاربات العلمية بأن حكامها أعادوا صياغة الأحداث بشخوصها وأماكنها بما يكرس شرعيتهم المكانية والزمانية وبما يناهض القوى العظمى التي كانت تحكم العالم خلال عهدهم.
أهل الديانات الأخرى يجتهدون في تسخير علم الآثار للتعرف أكثر على أسلافهم وحضاراتهم وأصول معتقدهم، فتراهم يقومون بالبحث والتنقيب وإخضاع عينات من ما تبقى من آثار مكتوبة أو مبانٍ للاختبارات العلمية التي تكشف لهم عن حقائق الزمان والمكان بشكل مجرد عن أي بواعث سياسية أو سلطوية، مثل هذا العمل محظور عندنا بل ومحرم تماماً، إذ لم يحدث قطّ أن سمحت أي دولة من الدول التي تحتضن المقدسات الإسلامية الكبرى لأي بعثة علمية بالتنقيب والدراسة وتحليل الحجر والتربة والوثائق والمخطوطات، وكيف يمكن أن يحدث هذا وبعض تلك الأماكن المقدسة محظور فيها اللمس والتصوير ومحرم دخولها على غير المسلمين؟
ما الذي يخيف في إخضاع الأماكن الأثرية التي تحتوي على السردية الدينية التي تربت عليها أجيال وتشكلت على حواشيها مذاهب وتيارات ألحق العديد منها بالعالم وبالاً وخيماً وما يزال؟ هل يتوجس أهل الحل والعقد خيفةً من تكشف حقائق تدحض السرديات التي يستمدون منها ومن قبلهم أسلافهم شرعية وجودهم وحكمهم؟ أم أن حالة الإنكار التي تقيم أود الهوية الثقافية للشعوب المُضلَّلة يُراد لها أن تستمر وتبقى إلى ما لا نهاية؟
لا يعقل أن تعي أمة ما تاريخها وأصولها وأساس ما تدين به… من مجرد نقول رواها شراح كانوا يأخذون رواتبهم وعطاياهم من حكام توجّه تصرفاتهم وقراراتهم بل ونظرتهم إلى الماضي والتاريخ؛ بواعث سياسية محضة وعوامل جيوسياسية مرتبطة بتوازنات القوى المحيطة بهم، حيث يغدو هؤلاء الشراح مجرد أدوات تستخدمها وتسخرها السلطة الحاكمة لتحقيق غرضها الرئيس المتمثل في تعزيز أساس وجودها الأيديولوجي الذي يعد المرتكز المنفرد والمتفرد نظراً لغياب الديمقراطية التي هي سبيل الوصول إلى السلطة عند غير المتسلطين.
ألا يعد أكثر قوةً وإقناعاً أن يجابه “ضحايا التآمر الاستشراقي” أعداءهم المستشرقين بحقائق علمية تضاهي ما يقدمه “الأعداء” من أدلة على ما يدعونه من تحريف وتلاعب في كتابة التاريخ الإسلامي؟ لماذا لا يبادر “المستهدفون” بـ”مؤمرات الاستشراق” إلى فتح أبواب الأماكن المقدسة عندنا وأبواب المخازن التي تحتوي على مخطوطات قديمة أثقلها الغبار والتراب لخبراء التحليل الكربوني وعلماء الآثار وخبراء قراءة وتحليل المخطوطات لكي يكون الرد على المستشرقين رداً قطعياً لا يحتمل التأويل أو الاختلاف؟ هل يعقل أن يكون ردنا على نتائج التحليل الكربوني الذي يبين عمر العينة الأثرية محلّ الفحص بالسنّة وبدقة متناهية؛ “قال فلان وروى علان وشرح على حاشية علنتان”؟
إذا كان من العسير على عامة الناس أن يقرروا أمراً في شأن قراءة التاريخ بأدوات علمية تحترم العقل وتغلبه على النقل، فإن مبادرة أهل الحل والعقد إلى تبني هذا التوجه هو أمر تفرضه مصلحتهم بعيدة الأمد، حيث لا يمكنهم المشي على الحبل لمدة طويلة، إذ أنه سينقطع بهم لا محالة ليسقطوا إما في خندق المتقولبين المتطرفين أو في ساحة العلمانيين العلميّين وكلا الفريقين لن يرحمهم.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.