فقه النيكروفيليا

الرابط المختصر

في الوقت الذي تسجّل فيه الموسوعات العلمية المتخصّصة للعالم البلجيكي جوزيف غيسلاين أنه أول من استخدم مصطلح “نيكروفيليا Necrophilia” لوصف المصابين بخلل مركب يجعلهم يستشعرون الشهوة والميل لمجامعة جثث الموتى، ظلمت تلك الكتب والموسوعات أسلافاً لنا ناقشوا مشروعية النيكروفيليا وعدم وجوب العقوبة على فاعلها! ليظهر أساتذة في الفقه الشرعي المقارن من جامعة الأزهر ومشايخ من المغرب العربي يجاهرون بـ”شجاعة” أن الشريعة تجيز النيكروفيليا وفقاً لقراءاتهم عند بعض المالكية والشافعية والحنابلة.

ثارت ثائرة المتلقين لهذه الفتاوى من منطلق فطري واحد سليم يعف عن تخيّل الفعل، هذا فضلاً عن إجازته، وراح هؤلاء يكيلون الاتهامات لمن أفتى بجواز النيكروفيليا بأنهم إنما يريدون “تشويه الإسلام… والطعن فيه… والافتراء على علمائه وفقهائه…”، دون أن يكلف أحد من هؤلاء المُتقززين نفسه عناء مجرد السؤال –ولا نقول البحث- عن المصادر التي استقى منها أولئك المفتون جوهر فتواهم.

لقد أورد بعض شرّاح المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم أقوالاً يطول سردها حول “نكاح الرجل لزوجته الميتة” واختلفوا في ما بينهم ما إذا كان يعد محرماً لانقطاع رابطة الزوجية ومن ثم يوجب العقاب أم أنه حلال لكون الوفاة –من وجهة نظرهم- ليست بمنزلة الطلاق، ومالت غالبية من ناقشوا هذا الأمر إلى عدم وجوب الحد لوجود الشبهة –رابطة الزوجية- السابقة على الوفاة، غاية الأمر أن المسألة أخذت حظها من النقاش والجدل بين شراح المذاهب قبل عام 1850 بقرون، أي قبل أن يناقشها جوزيف غيسلاين، وشتان بين تناول الرجل  لها من حيث كونها تمثل أحد أشكال الشذوذ المسلكي المرضي الذي يستوجب العلاج والتجريم وبين تناول بعض السلف لها بوصفها حلالاً أم حراماً مع شبه توافق في الآراء على عدم وجوب الحد على من يأتيها.

الغريب أن المعترضين على تناول أسلافهم ومشايخهم -متقدميهم ومتأخريهم- للنكيروفيليا يستسيغون فعلاً آخر لا يلقى خلافاً بين العلماء بل تجيزه العديد من التشريعات والعادات المتفرعة من جذر ديني، ألا وهو “البيدوفيليا Pedophilia”، أي ممارسة الجنس مع الأطفال! فتزويج الصغير يحتلّ في كتب الصحاح وغيرها أبواباً وفصول تتحدث عن مشروعيته وماهيته والولاية فيه… دون أن يرف جفن لأصحاب الحفائظ المستثارة من فتاوى النيكروفيليا، ولا يوجد سبب منطقي يفسر هذا التباين في ردات الفعل إلا قوة ثبوت البيدوفيليا ممارسةً وروايةً بحيث يغدو نفي صفة المشروعية عنها “إنكاراً لمعلوم من الدين بالضرورة”، في حين أن النيكروفيليا محل خلاف حول حلها وحرمتها ووجوب الحد -عند القائلين بحرمتها- من عدمه. ربما يقيس البعض الفعلين من زاوية الفاعل وليس من يقع عليه الفعل، فيتقززون من اشتهاء الحي لميت ولا يجدون غضاضةً في اشتهاء البالغ لطفل صغير! فإذا ما أُخذت المسألة من زاوية من يقع عليه الجرم، فإنك تجد انتهاك حرمة الموتى الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ولا حماية أجسادهم؛ لا تختلف كثيراً عن انتهاك حرمة جسد الصغير ونفسيته وهو لا حول له ولا قوة ولا يستطيع الدفاع عن نفسه بل إن آثار الاعتداء على الصغير سوف تبقى تلازمه طوال حياته نفسياً وجسدياً.

تؤكد الفتاوى الشاذة المتعلّقة بالنيكروفيليا بما استندت إليه من مصادر فقهية؛ على ضرورة غربلة التراث الذي يعج بالشاذ من الروايات والشروحات والفتاوى التي بدورها لها أصول وممارسات، فمجرد اتهام من يتبنى رأياً أو فتوى تتناقض في فحواها مع الفطرة السليمة؛ بأنه “أفاق… ومتآمر على الدين… ويتعمد تشويه الإسلام…” لا يبدو منتجاً وليس من شأنه أن ينفي وجود أقوال وآراء لفقهاء سبقوا وأفتوا، وليكن لدى من يعارضون فتاوى إباحة النيكروفيليا والبيدوفيليا الجرأة ذاتها بالقول إن من استُنبِطَت تلكم الفتاوى من كتبهم وأقوالهم هم أيضاً من شذّاذ الآفاق الذين يجب التبرؤ منهم ودراسة كتبهم بوصفها من أقبح ما عرفه التراث الإنساني على الإطلاق.

لا تبدو التشريعات التي تبيح البيدوفيليا من خلال شرعنة تزويج الأطفال؛ أقل بشاعةً وشذوذاً من فتاوى إباحة النيكروفيليا، ولن يكون صادماً بل ولا مستغرباً قيام من يقفون وراء هذه التشريعات الإباحية بالانحدار قليلاً نحو مزيد من الإسفاف لتشمل في إباحيتها الأموات إلى جانب الأحياء الصغار، وفي صندوق الحاوي ما يكفي من الشروحات والروايات لإسباغ صفة المشروعية على أكثر الممارسات المسلكية بشاعةً وشذوذاً، فليكن للعقلاء وأصحاب الفطرة السليمة الذين استهجنوا فتاوى النيكروفيليا الوقفة ذاتها من البيدوفيليا، فكلا المسلكين الشاذين وجه لفقه واحد.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك