فقهاء الخيال

الرابط المختصر

طبيعة الأمور تقتضي أن يبني الخَلَف على ما أسسه السلف، فحينما خرج أفلاطون على العالم بكتابه “الجمهورية” (أو المدينة الفاضلة) الذي جاء بدوره استيحاءً واستكمالاً لحوارات أستاذه سقراط، تواترت النتاجات الفكرية الإنسانية المبنية على هذه التحفة الفلسفية السياسية الشمولية، ومن تلكم النتاجات، أدب “اليوتوبيا” الذي أبدعه توماس مور وكتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة” للفارابي الذي كفّرَهُ أبو حامد الغزالي كما كَفَّرَ غيره من الفلاسفة والمفكرين. غاية الأمر، أنّ التراث الإنساني القِيَمي المشترك يجب أن يكون مثل كرة الثلج التي تتعاظم كلما تدحرجت من جيلٍ إلى جيل.

يقابل فلسفة “المدينة الفاضلة” وأدب “اليوتوبيا” القائمَين على سردية الكمال، “فقه الخيال” الذي أسَّسه “علماء” المسلمين الأوائل وبنى عليه وعزّزه المتأخرون منهم.

هذا الفقه لا يبحث عن الكمال بل عن نقيضه، فهو يقوم على ما يمكن تسميته بـ”فرضيات النقائص المحالة”، وهي الشواذّ من التصرفات والحالات المُتَخيَّلة مستحيلة الحدوث في جُلِّها، ليجتهد “العلماء” محاولين إيجاد حلول لها وإجابات عليها.

أورد ابن عقيل الحنبلي في كتاب “الفنون” مسألةً يبحث فيها حكمَ “من ولد برأسين فبلغ فنطق أحد الرأسين بالشهادة والآخر بالكفر”؛ فأيهما يُعتبَر، والعلماء على خلاف في هذا والراجح عندهم اعتبار “الرأس الذي سبق بالنطق! ولفقهاء الشافعية صولات وجولات في أحكام الوضوء والطهارة لصاحب “الرأسين” وما إذا كان المسح على أحدهما يغني عن المسح على الآخر!

منحت “جامعة الإمام محمد بن سعود” منذ 10 سنوات تقريباً درجة الماجستير لرسالة تحمل عنوان: “النادر من المسائل الفقهية في العبادات” أوردت في 500 صفحة أحكاماً فقهيةً لمسائل لم تقع وربما لن تقع وحتى وإن وقعت فإنّ بحثها في رسالة ماجستير يظل أمراً دونه الحكمة والمنطق.

اشتملت هذه الرسالة على مباحث ومطالب تناقش مسائل مصيرية يتحدد عندها حاضر ومستقبل البشرية وإعادة قراءة ماضيها! منها: “حكم استبدال السِنّ الساقطة بسِنّ حيوان مأكول اللحم حال موته وترقيع العظم بعظمه، وحكم استبدال السِنّ الساقطة بسِنّ حيوان مأكول اللحم حال حياته وترقيع العظم بعظمه، وحكم إعادة السِنّ الساقطة وتثبيتها في مكانها، وحكم الاستنجاء بالحصى والدود وما شابههما، وحكم ختان من له ذكران، وحكم غسل اليد أو الرجل الزائدة للإنسان، وحكم غسل لحية المرأة، وحكم مَسّ الذَكَر المقطوع وذَكَر الميت وذَكَر البهيمة وأثر ذلك على الوضوء، وحكم غُسُل من أدخلت في فرجها ذَكَراً مقطوعاً أو لرجل ميت أو لبهيمة، وحكم الزكاة عمن اتّخَذَ أنفاً من ذهب بدل أنفه المقطوع…”.

ما كان لمثل هذا “البحث” أن يجد طريقه إلى منبر علمي ويكون سبيلاً لحصول صاحبته على درجة علمية مرموقة؛ لولا فقه قد سبق يقول أصحابه: (أنّ أقصى مدة الحمل سنتين وعند بعضهم أربعة وعند آخرين 5 سنوات “ومين يزوِّد؟”، وأنّ الصلاة على سجادة مصنوعة من جلد الكلاب أو من جلد الخروف كثيف الصوف هو أمر خلافي يحتاج لتحليل وتأصيل، وأنّ دجاجةً لو ابتلعت لؤلؤةً  فعلى من يقع الغُرْم وفي الأمر تفصيل، وأنّ شرب أبوال الإبل فيها منافعُ للناس، وأنّ إرضاع الكبير سبيلٌ لجعل الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبية حلالاً زلالا، وأنّ دم البراغيث والقُمَّل فيه أقوال كثيرة حول طهارته ونجاسته…).

ظهر ما يسمّى بـ”فقه الواقع” بوصفه محاولة لجسر الهوة بين الواقع المُعاش وأحكام الدين الناجمة عن فشل تطبيق قاعدة “صلاحية النصوص الأبدية” التي أفضت بدورها إلى تجمّد الاجتهاد وتحجّر المجتهدين، فهذا الفقه يهتم بتحليل الواقع واستخلاص المسائل التي تهم الأفراد والمجتمع والعمل على دراستها وبيانها للناس. هذه المبادرة المحمودة التي جاءت أيضاً بوصفها ردة فعل على “فقه الخيال”، تصطدم بدورها بعدم واقعية بعض القائمين عليها من المنوط بهم أمر الفتوى في أيامنا هذه.

بينما كانت بغداد ترزح تحت القصف وتسقط في يد الجيش الأميركي وفي الوقت الذي كانت فيه غزّة تُدكُّ على رؤوس أهلها، كانت لجان الفتوى المؤمنة بـ”فقه الواقع” في بعض الدول “الرائدة” فقهياً، منشغلةً بالإجابة عن أسئلة تتعلق بـ: “جواز الاستنجاء بورق التواليت والورق الأبيض، وماذا لو كان هذا الأخير عليه كتابة أم لا، واستحباب النَفّ والبصق في طرف الثوب أو كمّه بدلاً من المناديل الورقية (والعياذُ بالله)”.

ثمة “علماء” أكثر “واقعية” قفزوا عن هذه السفاسف وتصَدَّوا لأمور عظام ومهام جسام، كان من أبرزها:  حكم الأكل في “البوفيه المفتوح”، حيث ثبتت عندهم حرمة ذلك قولاً واحداً لكونه من “البيوع المجهولة” أو “بيع الغرر”، إذ أنك تدفع أيها الجائع مقَدَّماً دون أن تعرف محتويات “البوفيه”، وإنني أُهيب بأصحاب الفنادق والمطاعم والعازمين على إقامة الأفراح أن يتّعظوا ويستبدلوا “بوفيهاتهم” ب”الشاطر والمشطور وبينهما طازج” أو ما يسمّى فِسقاً وتشبّهاً بالغرب: “ساندويشات”.

من وَرِثَ ذهباً فتحوَّل بين راحتيه إلى صفيح، عليه أن يعلم أنّ العلّة حتماً في الراحتين وليست في الذهب ولا في الصفيح، ليبقى السؤال:  كيف وصل “أفلاطون” ومن قبله “سقراط” إلى قمّة المنظومة الأخلاقية وفَنّ تضمينها في عناصر الدولة ومفاصلها وأورثونا هذا كله، فارتقت به أمم، وأممٌ أخرى استهلكَ طاقاتها ومدادها فقهُ الخيال؟

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني