عطاف العزة

الرابط المختصر

“يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع/ حزين أنا زيك و إيه مستطاع/ الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع/ الحزن زي البرد … زي الصداع/ عجبي !!!!”. لا شك أن الراحل صلاح جاهين قد نظّم هذه الرباعية بعد أن انبرى كعبي قديمه من السير خلف الجنازات وتقديم واجب العزاء بما فيها من تناقضات وممارسات لا تمت لفحواها بصلة.

ولدت في كنف عائلة ترفل بالعز والرخاء الحال في فلسطين المحتلة، تفتحت مداركها على نكبة عام 1948 فهاجرت مثلها مثل كلّ من خلفوا وراءهم أراضي وضياع مترامية على مد البصر. انتقلت لتعيش مع زوجها وأبنائها الثمانية في منطقة المحطّة ثم إلى محطات أخرى أدركت أهمها في حي الأرمن في منطقة الأشرفية.

كان بيتها يبعد عن بيتنا بضع أمتار، كنا نقضي عندها أكثر بكثير مما نقضيه في بيتنا،. كان لرائحة كاز المدافئ في بيتها المتواضع تأثير السحر، وكان لمنظرها وهي تجلس بجانب المدفأة وحولها أولادها وبناتها يتجاذبون أطراف الحديث مرة ويتشاجرون ونتشاجر معهم مرة ويتابعون مسلسل “الجذور” على قناة (6) مرةً أخرى… كان له وقع الإلهام ورقّة السكون والسلام.

ليس من رجل من جيلي إلا وقد غسلته وأطعمته ونوّمته ثم تفقدته أثناء الليل لئلا يكون قد تكشّف عنه غطاؤه. زوجها كان مكافحاً يعمل سائقاً على سيارة لشحن الخضروات والفواكه بعد أن خلّف وراءه هو الآخر بيارات وأراضي في منطقة رام الله، كان يطوي الصحارى بشاحنته القديمة متنقلاً بين السعودية والكويت والعراق… لم يكن يرى زوجته وأولاده إلا كل شهر وربما كل شهرين مرة، وهي من يدير البيت ويرعى الأطفال والكبار.

ظنت أن رسالتها قد انتهت حينما ناهزت الستين من عمرها، لتكتشف أنها مطلوبة فوراً لتعيد أيام زمان مع أحفادها الذين لظروف قاهرة تربوا في كنفها، فكانت ترعاهم وهم أبناء 3 سنوات حتى تخرجوا من الجامعات أطباء وموظفين.

هزمت الفقر والمرض وقلة الحيلة لعقود، حتى هزمها المرض فقضت وهي تسأل عن أحفادها وبناتها وأبنائها، ليس من شخص في عائلتها قريباً كان أو بعيد إلا و”لها عليه دالة ومنة مستحقة”.

رقدت بعد أن تضخمت يداها الهزيلتان من أثر ما وضع فيهما من خراطيم وأبر، تلمست وجهها وهي تنتظر نقلها إلى مثواها الأخير، كان بارداً لكنه نضر، كأنها تقول: “آن الأوان لأرتاح ولتنتهي رحلتي معكم، فاذكروني كلما أشعلتم مدافئكم لتحمصوا عليها الخبز، وتذكروا في كل مرة تستحمون فيها كيف كانت ثيابي تبتل في البرد القارص وأنا أسكبها عليكم دافئةً في زمهرير المربعانية، تذكروا يوم كنت أصنّع المقدوس والمخللات فأقسِّم المرتبانات فلا يفوتني أحد إلا وله من مونتي نصيب”.

كيف طاوعت البعض قلوبهم فتحدثوا عن عمل وصفقات وأجابوا مكالمات وأجروا محادثات… على شفير قبرها، وهي التي كانت في أواخر سنواتها تستمع إلى الجميع للصغير قبل الكبير ولا تتحدث، كانت تأبى أن تخرج منها الألفاظ على غير مرادها نتيجة ما ألمّ بها من جلطة دماغية أثرت قليلاً على النطق عندها، نعم ، كان عندها كبرياء الأصلاء وشموخ المقاومين الذين يرفضون الهزيمة أو إبداء ضعفهم ولو كان بحكم الطبيعة والمرض.

يقولون في دفن الموتى عبرة وعظة ولم أرَ فيه إلا هرج ومرج وفرصة للالتقاء بين من باعدت بينهم مشاغل الحياة، عموماً، هي لا تكترث، فقد أدت ما عليها وأفضت إلى ما أملاه عليه ضميرها الذي كان وسيظلّ حياً بعد رحيلها.

هي قصة لا بل هي رحلة تجسد إباء وإصراراً صنع من أولادها وبناتها رغم ضيق الحال وألم المآل؛ مهندسين وفنيين، ومعلمين والأهم من ذلك كله؛ أصحاب ضمائر حية وخلق رفيع يستقي مضمونه من مكنونه الذي ينتهي عندها ومن عندها بدأ.

رحم الله صلاح جاهين، فقد يكون الحزن بات من غير جلال وتبدلت عليه الأحوال، لكن الأكيد أن الرحيل وإن لم يتبعه عويل، إلا أنه يترك في نفس أحباب من يرحل غصةً لا تزول ومرارةً قد تطول.

 رحم الله جدتي وجدة الجميع، عطاف محمود العزة.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك