حُرمَةُ التعبير

الرابط المختصر

لا تكاد تخطئ الفراسة في تحديد العبارات والكلمات التي تنسجها ألسنة عشاق الكهنوت أضداد حرية الرأي والتعبير؛ في كل مرة يُعبِرُ فيها شخصٌ ما عن رأيهِ في الموروث الديني ويتناوله بالتحليل والتأصيل، هذا التخمين ليسَ سِحرَاً ولا عِلمَاً لَدُنّيّاً بل هو استنتاج علمي ونتاج طبيعي لحالتي الإنكار والإرهاب الفكري المتجذرتان في كُنهْ الموروث وتنعكسان على أسلوب التعاطي مع المُخالِف أو حتى المتسائل.

يعتمد المنافحون عن تقديس الموروث على عواهنه أساليب ثلاثة في الذود عن التقاليد وترسيخ التقليد: التشكيك في الخصم وطعن في شخصه، وترديد عبارات ببغائية مُرسَلة لا يسندها دليل، وأخيراً، الاستشهاد بنصوص وأحداث بعضها خارج عن سياقه وبعضها يؤكد الخصومة الأزلية بين الديانات وحرية التعبير.

باتت الاتهامات بالارتهان لـ”أجندات” أجنبية” و”محاربة الدين” و”الانتماء إلى منظمات صهيونية أو ماسونية”.. فاقدة لمعناها بل ولمذاقها الكريه لكثرة ترديدها وإرسالها دونما دليل أو برهان. هذا النهج التشكيكي المبني على شخصنة القضية الخاسرة ليس جديداً بل قديم قِدم الموروث ومراحل تطوره.

ينقل ابن حبان في كتابه “المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين” عن العلامة “الكبير” سفيان الثوري حينما جاءه خبر وفاة الإمام أبو حنيفة النعمان قوله: “الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض الإسلام عروة عروة، وكذلك نقله الخطيب البغدادي في كتابه “تاريخ بغداد”، كما يَذكُر عين المَصدَران قول سفيان الثوري بأنه: “أستُتيبَ أبو حنيفةَ مرتين”، أي أنه اتهم بالكفر ثم أستُتيب.

أما الحملة الشعواء التي شنّها الإمام الغزالي على أبي حنيفة ومالك وعلى الفلاسفة، فهي نموذجٌ لوصلات الردح المُقفّى وكأني بالرجل كان ينقصه أن يحمل دُفّاً أو رِقّاً لتكتمل سنفونية الردح “الحيّاني” ضد خصومه، وحسبك كِتابَيه “المنخول في علم الأصول” و”تهافت الفلاسفة”، فأقل ما استخدمه الغزالي لنعت خصومه أنهم: “أغبياء… حمقى… جهلة… فَسَقة…” هذا بخلاف التكفير الصريح والضمني للعديد من الفرق الإسلامية التي ظهرت في زمانه.

الذمّ والقدح إذن، في شخص المُخالِف ليس بِدعَاً من الأمر استحدثهُ المتأخرون من أبناء هذه الأمة بل هو ركنٌ أصيل من أركان منهجية التعاطي مع كل من تسوّل له نفسهُ الأمارة بالسوء أن تَنفَرِج شفتاه ليحرِك لسانه ويعبِّر عن رأيه.

يواكب استخدام سلاح الشخصنة خلفية “أوبرالية” غير متآلِفة تصرخ بأن: “هلمّوا إنّهم يخشون الدين… الدين مستهدف لأنه سريع الانتشار ويدخله المئات بل الآلاف يومياً”، وهو ما يُمثِّل المَسلَك الدفاعي (defensive behavior) المعروف في علم النفس الذي يلجأ إليه المرء حينما تُمَسّ أوتاره الحسّاسة التي يعلم نشازها ويعمل جاهداً على إخفائه.

ثمة نصوص يتم توظيفها لترسيخ حرمة الرأي والتعبير وعلى رأسها آية سورة المائدة: “يا أُيّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم”، وقد فصّل القرطبي في تفسيره ست مسائل حول هذه الآية خلاصتها أنّ كثرة السؤال أمر غير محمود خصوصاً إذا كان متعلقاً بتفاصيل وجزئيات قد لا تبدو مهمة أو غير ذات أثر أو غير مطروحة للنقاش. يروي البخاري في صدد هذه الآية: “عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة – أي أضجروه وأحرجوه بكثرة المساءلة – فصعد الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر فقال: “لا تسألوني عن شيءٍ إلا بينت لكم”. فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي. يعني خوفاً من غضب الرسول صلى الله عليه وسلّم. قال أنس: .. ثم أنشأ عمر يقول: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن…”.

هذان النصان يمثّلان عمدة حجج القائلين بحرمة الرأي والتعبير أو التضييق منها على أحسن تقدير. ثمة قواعد أصولية تفصل في هذه المسألة على رأسها قاعدة: “عموم النص وليس خصوص السبب”، أي أن سبب التنزيل أو القول لا ينفي إطلاق الحكم الوارد في النصوص، فإذا ما أُضيفَ إلى ذلك ملاحظة منهجية تصنيفية هامة تتمثل في إيراد العديد من الأئمة لهذا الحديث في كتاب “ما يكره من السؤال” أو “كتاب الفتن”… الأمر الذي يجعل قرينة السؤال الكراهة وإثارة الفتنة؛ فإنه يغدو جليّا الأساس الفكري النمطي الذي يجعل كهنة العصر يربطون كل سؤال وتساؤل بنية مبيّتة وقصد قائم لـ”إثارة الفتن” و”هدم ثوابت الأمة” و”بُغضِها”!

أياً ما كان أمر الخلاف حول فهم هذه النصوص وتأويلها، فالثابت أنّ الحضّ على السؤال والتشجيع على الإكثار منه عند الأطفال والكبار مع تنمية مهارة توظيفه لاكتساب المعارف؛ هو غاية مرام الأمم التي ترنو العلم لتصنع من فروعه شجرة مجدها وسؤددها.

إن ما بين حرية وحرمة التعبير أكثر من حرف، وعلى سدنة التحريم والتكميم أن يدركوا الحقيقة ويتصالحوا مع أنفسهم فلا يكونوا كمن يعبد ويَتعَبّد على حرف.

أضف تعليقك