حساب الديمقراطية والاستبداد
الديمقراطية، كما الاستبداد، ليست مجرد مؤسسات. إنها كذلك ثقافة وممارسة؛ إذ لطالما كانت هناك أنظمة مستبدة لديها في بنيتها كل المؤسسات اللازمة، ورغمها، بل وعبرها، سودت التاريخ بأشنع الممارسات. والعكس صحيح، أيضاً.
وبهذا، يلزم بالفعل قياس فعالية مؤسساتنا “الديمقراطية”، من حيث حجم دورها وأثره الفعلي على الحياة السياسية، واتصال هذا الدور بالقضايا الملحة، وانسجامه مع مصالح الشرائح الشعبية الواسعة، والتزامه بالمصالح الوطنية العامة.
لا حاجة لكثير من التأمل ودراسة العينات.
نرصد في الإعلام على الدوام أن رغبة الحكومة في السيطرة على المايكروفون شديدة، لدرجة أنها في كل موقف، تحتاج فيه طبيعياً إلى سماع رأي شعبها، تغلب حاجتها إلى تلقين هذا الشعب آراءه ومواقفه. ولا تترك فرصة في التعبير من دون اتهام.
لدينا مجلس النواب أصبح مجرد فنجان تموت فيه كل الزوابع السياسية، بينما الصحافة ومنابر الرأي تتوحد في لونها، إلى درجة أنها في بعض الأحيان تصبح على مقاس رجل واحد في موقع القرار. ولا تندر أن تكون أداة تعبئة عامة!
سقف المجلس، كما سقف الصحافة، انخفض إلى درجة أن المرء يستغرب كيف يستطيع أن يدخل إليه النواب قصيرو القامة، فما بالكم بفارعي الطول. ونقاشاته، رغم الدعم الإعلامي، لا تنجح في إثارة أي نقاش في المجتمع. وهذا أمر مطلوب على ما يبدو، تحت ذريعة أن المجلس، لا المجتمع، هو المكان الصحيح للنقاش، انسياقاً وراء الفكرة الاستبدادية القائلة بتأطير (تقنين) النقاش العام.
وفي حساب الديمقراطية والاستبداد يتعثر المرء بأمور أخرى؛ أن الحكومة دائماً ما تجر المجلس، بطريقة أو أخرى، للتسليم بموقفها، والمصادقة على قراراتها، حتى باتت فكرة إقالة وزير، ناهيك عن الحكومة نفسها، فكرة شيطانية لا يمكن ولا يجوز أن تحدث، حفاظاً على الكرامة الوطنية.
والكرامة الوطنية هنا، تصبح حصراً، كرامة الحكومات.
ويتعثر المرء بحقائق أخرى؛ إذ لا يمكن حقيقة تجاهل أن نسبة الشخصيات الوطنية التي يخرجها قليلة جداً، إن لم تكن معدومة تماماً. وهكذا، بات القادرون على الفوز يدخلون البرلمان مجهولين على المستوى الوطني، ويخرجون منه كذلك، رغم مرافعاتتهم ومناكفاتهم الكثيرة.
الأمر الذي يدعو للتساؤل عن كلفة الانتخابات الكبيرة!
يمكن كذلك حساب التشكيلات الحكومية، وحساب عدد المستقطبين الذين قدمهم المجلس للحياة السياسية، ليصاب المرء بالفزع، وينتبه إلى حقيقة أن مجلس النواب، بدرجة ما، يشبه مجلس الأعيان، إذ أنه يضم في نسبة مقلقة، أعضاء قادمين من الحكومات أو من السلك الحكومي، وليس من العمل العام.
إنه، فعلاً، استثمار خاسر وفاشل!
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.