المحكمة الجنائية الدولية؛ طبشورة العريف

الرابط المختصر

“يعد عدواناً على النظام الديمقراطي انخراط القضاء في السياسة”، يعبّر عضو المحكمة العليا في أميركا الراحل القاضي فليكس فرانكفورتر (1882-1965) من خلال مقولته هذه عن هاجس قديم جديد يتعلّق بخلط القانون والقضاء بالسياسة، هذا الخلط الذي تعد نتيجته وبكل أسف محسومةً -كما يقول التاريخ- للسياسة التي ترجح كفتها على ما سواها إلى الحد الذي قد تغدو معه التشريعات وآليات الانتصاف مجرد أدوات طيعةً في خدمتها وخدمة اللاعبين في حلبتها.

من المؤلم أن يمسك رجل قانون بقلمه لينعى إحدى آليات الانتصاف الدولية التي طالما تمنى أن يشهد لحظة ولادتها؛ تلك هي المحكمة الجنائية الدولية التي جاءت بعد تاريخ طويل من المحاولات والمبادرات التي بدأت عقب مؤتمر باريس للسلام في الربع الأول من القرن العشرين ولم تنفك حتى غدت حقيقةً قائمةً على الأرض بصدور نظام المحكمة (نظام روما الأساسي) عام 1998.

على الرغم من البداية الضعيفة وغير الموفقة التي شابت نشأة المحكمة الجنائية الدولية حينما توالت الانتقادات ضدها عقب الأحكام المتواضعة جداً التي صدرت في حق توماس لوبانغا ديلو الذي ارتكب جرائم حرب من بينها تجنيد الأطفال دون سن 15 عاما للقتال ضمن صفوف الميليشيا العسكرية التي كان يقودها بين عامي 2002-2003 في جمهورية الكونغو الديمقراطية، إلا أن الآمال ظلت معلقةً على المحكمة لتصحيح مسار العدالة الجنائية الدولية.

أثبتت هذه المحكمة يوماً تلو الآخر تأثرها الشديد برياح التسيس العاتية بدءاً بتقاعس المدعي العام فيها عن استخدام سلطاته في تحريك التحقيقات الجنائية ضد مرتكبي جرائم الحرب في فلسطين والعراق وبورما… وغيرها؛ بما في كل هذه المناطق من توثيقات ومعلومات ذات مصداقية عالية يمكن البناء عليها للتأسيس لدعاوى جنائية قوية وفقاً لأحكام نظام المحكمة الأساسي، انتهاءً بتهديد دول بعينها ومحاسبتها انتقائياً بأثر رجعي لـ”عدم تعاونها” المزعوم في تحقيق معين تشوب مجرياته أكثر من علامة استفهام.

آخر لقطات السطوة السياسية المبتذلة للمحكمة كان في استيقاظها المتأخر على مسألة استقبال الأردن للرئيس السوداني عمر البشير الذي شارك في القمة العربية في شهر آذار/ مارس 2017، حيث انتبهت المحكمة في مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري؛ أي بعد مرور نصف عام إلى أنه كان من الواجب على السلطات في الأردن تسليم البشير للمحكمة لكونه مطلوباً لها بتهم ارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية أثناء النزاع المسلح في إقليم دارفور.

المدهش في هذا المقام عدم تحريك المحكمة المستيقظة من سباتها ساكناً في حينه على الرغم من أن منظمة هيومان ريتسواش والأمير زيد بن رعد بن الحسين المفوض السامي لحقوق الإنسان قد أعربا عن أسفهما لهذه الزيارة في مطلع شهر نيسان/ إبريل من العام الجاري! والسؤال المحوري هنا يتعلق بالتوقيت الذي تم اختياره، أقصد لماذا أرغمت فيه المحكمة على الاستيقاظ وإثارة المسألة وكأنها حدثت بالأمس القريب؟

إن قراءة تحرك المحكمة المفاجئ ضد الأردن أمام مجلس الأمن الدولي لعدم تسليم المملكة الرئيس البشير؛ يتوجب أخذه في سياق الأحداث المتسارعة التي سببها قرار ترمب الاعتراف بالقدس عاصمةً لـ”إسرائيل” وما أعقب ذلك من تحرك رسمي وشعبي تقاطعا بل توحدا في مسار رافض لهذا القرار الذي يعكس الافتقار للحكمة السياسية وضبابية قراءة المشهد الإقليمي برمته من ثلة من الهواة الذين أفرزتهم صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة.

على الرغم من أهمية مسألة القدس والآثار السلبية لقرار ترمب المتسرع بهذا الخصوص، إلا أن حقيقة المأساة تكمن في ظهور المحكمة الجنائية الدولية بما لها من مكانة ووقار مفترضين أو مأمولين وكأنها قطعة بائسة على رقعة شطرنج تتحرك في الاتجاه وبالتوقيت الذي يحدده اللاعبون الكبار.

لو أن المحكمة طالبت بتسليم البشير وقت زيارته؛ لكنت ممن أيدوا مطالبتها قولاً واحداً، أما وقد تخلت المحكمة طوعاً عن حقها في استخدام صلاحياتها في الوقت الذي كان يجب عليها القيام بذلك؛ لتعود وتتذكره بعد مرور 180 يوماً لغايات سياسية مقيتة، فإن القانون وسؤدده والعدالة ومقاصدها براء من استخدام هذا الحق المراد به عين الباطل.

 كان من المفترض أن تكون المحكمة الجنائية الدولية ملاذاً لشعوب الأرض المظلومة والمطهدة التي جحدتها آليات الانتصاف في بلدانها؛ لتقتص لهم هذه المحكمة من جلاديهم وتنفذ فيهم حكم القانون، إلا أن المرارة التي تخلفها مشاهدة مثل تلك الآليات وهي تتهاوى تحت ضربات التسيس الغائية؛ لا تقل بحال عن مرارة الظلم والاطهاد التي يعانيها الضحايا الذين علقوا آمالهم على تلك المحكمة يوماً ما.

في القانون والقضاء العبرة ليست دائماً في الخواتيم وإنما كثيراً ما تكون بالبدايات والتوقيتات، فسيادة القانون التي تحكمها قوانين السياسة هي قبض الريح وأضغاث أحلام، والقضاء الذي قوامه الشخصنة والانتقاء؛ إنما هو بمثابة طبشورة العريف، الذي يغض الطرف عمن ينافقونه من تلامذة الفصل ويسجل أسماء من لا يمتدحونه على السبورة ليعاقبهم المعلم بعد بداية الحصة التي ليس لهم فيها حصة.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني